مصعب قاسم عزاوي، عضو رابطة الكتاب السوريين
مجلة أوراق العدد13
مقالات
قد لا يختلف عاقلان بأن مصطلح النخبة مجموعاً بالنُّخَبِ ينطوي في تلافيفه على ثقل مفهومي حمّال أوجه ومطاط وضبابي إلى درجة الميوعة واللاشكلية في كثير من الأحيان، وأن هناك عدم تطابق مفهومي جلي في مدلول ذلك المصطلح وما يراه في كينونته المتلقي الاعتيادي في العالمين الغربي والعربي.
ففي العالم الغربي فإن مفهوم النخب «Elites» ينطوي على كل من يمتلك مفاتيح صناعة القرار في حقول السلطة والاقتصاد والمعرفة بشكلها الإعلامي والإيديولوجي. وهو مصطلح أعتقد بأن الترجمة الأكثر دقة في تعريب حمولته المفهومية يجب أن تكون «علية القوم» أو «أهل الحل والعقد»، وهم الذين ينضم في عدادهم فئة «الخبراء» و«التكنوقراط» المكلفون بشؤون تنفيذ إرادات وصيانة مصالح أولئك المتنفذين النافذين، وضمان ديمومة هيمنتهم على كل مفاصل المجتمعات التي يتسيدون عليها عمقاً وسطحاً وعمودياً وأفقياً، وعلى كل الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وما ارتبط بها سواء بشكل مباشر أو غيره.
أما في الفكر العربي، فهناك الكثير من الصخب المفهومي الذي يجعل في كثير من الأحيان المفهوم عصياً على الهضم المعرفي. وأغلب الظن بأن جوهر ذلك الشواش المعرفي مرتبط باشتقاق المصطلح لغوياً من فعل «نَخَبَ» والذي يحمل في مدلوله الإيحائي حمولة إيجابية تقترب من مدلول «الصفوة، والرشاحة» بالإضافة إلى اقترابه اللازم معنوياً في آلية الاستبطان المفهومي للمشتق الآخر، وأعني هنا «الانتخاب والمنتخب» بمعنى «الاصطفاء والمختار والمنتقى»، وجميعها مدلولات ذات حمولة معرفية إيجابية من الناحية اللغوية كحد أدنى، وهو ما يجعلها عصية على توطين مفهوم «Elites» كما هو عليه في السياق المفهومي في الغرب وتعريبه ليكون «النخبة» لتضاد لغوي بنيوي ينتج عسراً مفهومياً كان المقدمة الموضوعية للشواش في استخدام المفهوم عربياً.
ولأجل حل تلك المعضلة، فقد تحول استخدام المفهوم عربياً خلال بضعة العقود الأخيرة، ليصبح متوازياً في كثير من الأحايين مع مفهوم «الإنتلجنسيا» أو فئة المتعلمين الأكثر اطلاعاً من الناحية التقنية في مقاربة لمفهوم «المثقفين» بشكله التقني المحض أو ما يقارب مفهوم «Intellectuals» في اللغة الإنجليزية. وفي بعض الأدبيات باللغة العربية صار يمكن أن يكون مرادفاً لمفهوم «الطليعة الثورية» كترجمة لمفهوم «Vanguard» والذي ينطوي على حمولة إرادوية فوقية استعلائية تنظر إلى عموم أفراد الشعب من المواطنين على أنهم قطيع من «الشياه الشاردة» غير القادرة على التفكر بما هو أصلح لها في حيواتها اليومية ومستقبلها، ولا بد لها من الاستسلام لإرادة «المخلصين المنتظرين» من «النخب» بشكلها «الطليعي الثوري» للقيام بتلك المهمة عنهم، وقيادتهم إلى الصلاح والسؤدد الذين دون قيادة «الطليعة الثورية الفذة» لن يعرفوا إليه سبيلاً. وفي ذلك السياق من الأدبيات الاستبدادية الثوروية التي سوقت لها الأنظمة الشمولية في العالم العربي في غير موضع من خارطته، بعد تنميقه بأكداس إرادوية شعبوية التزاماً بأوزان وقوافي الخطاب الاستبدادي على الطريقة العربية، يمكن تلمس بواكير تلاقي مفهوم «النخب» من الناحية الاصطلاحية والمفهومية واللغوية عربياً مع مدلوله الفعلي في العالم الغربي الذي يومي فعلياً إلى من يتحكمون بمصادر الثروة والسلطة والإعلام والسياسة في المجتمع.
وفي جميع الأحوال أعتقد بأن مفهوم «النخب» يجب دائماً أن ينظر إليه بأنه جزء جوهري من أدوات الهيمنة يهدف لتخليق وعي زائف برفعة وأهلية فئة عن فئة أخرى، تؤهلها لاتخاذ مكان الصدارة بشكل أو بآخر يرسخ هيمنتها في المجتمع؛ وأن الاجتهاد الفكري المخلص يجب أن يصب في نسق تأهيل المفهوم النقيض لمفهوم «النخب» بأشكاله السائدة في الغرب وتلك المحورة عنوة وقسراً عربياً، وهنا أعني مفهوم «المثقف العضوي» الذي يعتقد بأن العلوم والمعارف والخبرات التي تحصل عليها لا تنقله إلى حيز «المحظيين» الناظرين إلى غيرهم من أقرانهم في المجتمع من عل، وإنما إلى فئة «المكلفين» برد الجميل الاجتماعي لذلك المجتمع الذي لولا المعرفة التي تراكمت فيه جيلاً بعد جيل، ولولا مدارسه وجامعاته ومؤسساته البحثية التي تمثل في جميعها جهداً عمومياً تراكمياً في المجتمع لما تمكن من الوصول الى تلك الرتبة المعرفية، و هي الحقيقة الدامغة التي تقتضي منه «الاجتهاد والدأب» لاستثمار وتأصيل المعارف التي راكمها في نسيج المجتمع وإعادة تقديمها وتبسيطها للعامة من أفراد المجتمع الذي يعيش في كنفه بما يسهم في عملية «التنوير والاستنهاض المعرفي» في المجتمعات التي دونها قد يستحيل تعزيز تقدم أي مجتمع في صعود درجات سلم الحضارة بمعناها الشمولي الذي يتجاوز مفهوم «التمدن» بشكله العمراني التقني منتقلاً إلى الفضاءات الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية التي لا بد من استدماجها جميعاً في صيرورة نهوض أي مجتمع يرام تصعده إلى حيز «الحضارة الحقيقية» وليس الشكلية التلفيقية.