محمود الزيباوي: قصة الزواج بين صوت التلميذة الخجول ولحن الأستاذ المتكبّر

0

توفي عاصي الرحباني في 21 حزيران 1986 عن 63 عاماً، وانطوت برحيله رحلة فنية شهدت انطلاقتها الأولى في الإذاعة اللبنانية في العام 1948. منذ تلك الفترة، ارتبط عاصي بشقيقه منصور، وشكلا معاً ثنائياً حمل اسم الأخوين رحباني. دخلت فيروز الإذاعة في 1950، وتعاونت معهما من خلال عملها، وتطوّر هذا التعاون تدريجياً، وتحوّل إلى شراكة كاملة منذ العام 1952. كيف بدأ هذا التعاون، وكيف تطورّ؟ تتعدد الروايات المتناقلة وتتضارب بشكل كبير، غير أن العودة إلى المصادر الصحافية في تلك الحقبة تكشف الكثير من المفاجآت المثيرة.

كيف تمّ اللقاء الأول بين عاصي وفيروز؟ تتعدّد الروايات وتتبدّل مع مرور الزمن بحيث يصعب تحديد الرواية الأقرب إلى الحقيقة. في حديث أجرته معه مجلة “أهل الفن” في العام 1955، يقول عاصي: “كنت أقوم بإعداد برامج موسيقية غنائية للإذاعة، وفي يوم دعاني حليم الرومي رئيس قسم الموسيقى بالإذاعة للاستماع إلى صوت جديد، فرأيت فتاة صغيرة تحمل كتاباً، ومعها أبوها، وسمعت صوتاً وقلت: لا بأس، إلا أنني آمنت أنها تصلح للغناء. وقال أخي إنها لا تصلح إطلاقاً للغناء الراقص. وبدأت أعلّمها فكانت أحسن من غنّى هذا اللون. ومن هنا نعرف مبلغ صدق حكمنا على الأشياء”. 

في المقابل، نقع على شهادة تعود إلى العام 1956، نقلها الصحافي المصري محمد السيد شوشة في كتابه “فيروز المطربة الخجول”، وفيها عاد حليم الرومي إلى اللقاء الأول بين فيروز وعاصي “من دون أن يتمالك نفسه من الدهشة بعدما أصبحا زوجين بعد مضي أربع سنوات من هذا التاريخ”، وقال: “كان من واجبي بحكم عملي الإذاعي أن أعمل على تلوين إنتاج المطرب أو المطربة، لذلك استدعيت عاصي الرحباني، وقدمتها إليه قائلاً: أقدّم لك الصوت الجديد الآنسة فيروز. صافحها في تعالٍ وكبرياء، بطريقة تُشعرها بأنه الموسيقار الأكبر، وأنها فتاة نكرة لا أهمية لها. ولما قلت له: حاول يا أستاذ عاصي أن تختار للآنسة فيروز مجموعة من الأغنيات الراقصة. أجابني قائلاً بعدما استمع إلى صوتها: انها تصلح لكل شيء ما عدا الأغاني الراقصة”. أكمل الرومي الرواية ووصف “شعور المطربة الصغيرة نحو الموسيقار الكبير في أول لقاء” بقوله: “لقد لفت نظرها إليه بلا شك، ورأت فيه شيئاً كبيراً حقاً لم تستطع أن تكتم شعورها نحوه، فقالت بنفسها: دمه تقيل”.

تتقاطع هذه الرواية مع حديث نُشر في مجلة “الشعلة” في نيسان 1956، وفيه تقول فيروز عن هذا اللقاء: “ما كان شعوري أيضاً؟ لا أذكر. كل ما أذكره أني استثقلت دم الرجل في ما بعد”، ويقول عاصي: “لم تعجبني لأوّل وهلة، لكن صوتها كان يعجبني، وكذلك حسّها المرهف وذكاؤها المتوقّد والسرعة العجيبة التي كانت تحفظ بها أي لحن وتؤديه بدون غلط، ثمّ أخذ هذا الصوت يتبلور شيئاً فشيئاً”. كيف أخذ هذا الصوت ينمو ويتبلور؟ برز صوت فيروز منذ إطلالاتها الأولى في الإذاعة اللبنانية، وشاع بدخوله “محطة الشرق الأدنى” مع الأخوين رحباني، ثم المحطة السورية. ونشرت مجلّة “الصياد” أول صورة لصاحبة هذا الصوت في كانون الأول 1951، وقالت في تعليقها إنها “فتاة صغيرة يملأ صوتها المخملي عشرات التسجيلات في جميع محطات الإذاعة العربية”، “وقد فشلت جميع المحاولات في حملها على الظهور أمام الجماهير، فالفتاة خجولة يحمر خداها ويتلعثم لسانها إذا قال لها أحد زملائها: أحسنت يا ست”، “وعندما تتكامل قواها النفسية وتظهر على المسرح، فستكون النجمة التي رشحتها وترشحها الصياد لاحتلال مكان الصدارة بين المغنيات اللبنانيات”.

التلميذة والأستاذ صعد نجم فيروز مع الأخوين رحباني بسرعة البرق في العام 1952 حيث اشتهرت “المطربة الخجول” بأغنياتها الراقصة، لكن النجاح الأكبر أتى من طريق أغنية من طراز آخر هي “عتاب”، وجاء في خبر نُشر في “الصياد” في 25 أيلول: “بقي أن نقول إن أغنية عتاب التي لحنها عاصي الرحباني وغنتها فيروز قد أصبحت أغنية الجمهور المفضلة في البيوت والصالونات”. تابعت المجلة هذا النجاح، وخرجت في مطلع 1953 بخبر مثير يقول: “نشرت احدى الزميلات خبراً عن قرب زواج الملحن الشاب عاصي رحباني بالمطربة الذهبية الصوت الآنسة فيروز. وقد كذّب الملحن هذا النبأ وهو يبتسم. وكذّبته المطربة وهي تبكي. فهل فهمت شيئاً؟”. وامتدحت المجلّة الأخوين رحباني، وأضافت: “كان لفيروز الفضل الأكبر على هذين الفنانين، لأنها أحسنت إبراز ألحانهما بصوتها العاطفي القوي، وخاصة في أغنية عتاب التي تذوب فيها أمام الميكروفون، وتذوب معها قلوب المستمعين وعواطفهم”. في تلك الفترة، نشرت مجلة “الإذاعة” خبراً مماثلاً يقول: “انطلقت في الأسبوع الماضي إشاعة خبيثة من الصحف تروي أن المطربة على وشك أن تتزوّج من الملحن الشاب السيد عاصي الرحباني صاحب الفضل الأول على حنجرتها وعلى تبلور مواهبها الفنية. وقد كذّب الاثنان هذا الخبر وقررت فيروز أن تغنّي لمروّجي هذه الإشاعة أغنيتها المشهورة عتاب”. 

في 22 كانون الثاني، عادت “الصياد”، وكتبت في خبر جديد: “قالت لنا المطربة فيروز إنها على وشك أن تعقد خطبتها على أحد شباب عائلتها، وإنها قررت أن تبذل في الأشهر القليلة القادمة مجهوداً فنياً مضاعفاً تمهيداً لاعتزالها الغناء بصورة نهائية”. وكتبت “الإذاعة” في هذا السياق: “كان الاعتقاد السائد في الأوساط الفنية أن المطربة الشابة فيروز على وشك أن تعقد خطبتها على الملحن الشاب عاصي الرحباني، لا سيّما أنها تدين له بالفضل الكبير في شهرتها ونجاحها الفني المنقطع النظير. وتجرّأت إحدى الزميلات الدمشقية فنشرت نبأ زواجهما، مما دفع المطربة فيروز إلى وضع حد لهذه الشائعات والقول بصراحة أنه ليس بينها وبين عاصي سوى علاقة التلميذة الوفية بأستاذها المخلص لها، ثم الإعلان بأنها على وشك أن تعقد خطبتها على شاب من أفراد أسرتها. وقد أبدت فيروز لمديريّة محطة الإذاعة رغبتها في الانفصال عن فرقة الكورس والاكتفاء بإذاعة حفلة أو حفلتين كل شهر، كما أبدت لعاصي رغبتها في اعتزال الغناء بعد سنة واحدة على الأقل، لأنها ستترك الغناء بعد أن تتزوّج وتغني لزوجها وحده الأغنيات التي كانت تنتزع الآهات من قلوب آلاف المستمعين. المهمّ أن هناك مساعي لحمل فيروز على عدم اعتزال الغناء، لا سيّما أن الشهرة التي وصلت إليها قويّة وممتازة، إلى درجة أنه لا يصحّ أن تضحّي بها من أجل الزواج، خصوصاً أنها ما زالت في ريعان الصبا. وتقول فيروز رداً على هذه المساعي إنها سوف تحاول اقناع شريك حياتها المقبل بالموافقة على أن تجمع بين الزواج والفن”.

واصلت فيروز مسيرتها مع الأخوين رحباني، وكتبت مجلة “الموعد” في وصفها في شباط 1953: “صوت فتاة يملأ برامج محطة الإذاعة اللبنانية ثم يتسلّل إلى برامج المحطّات العربية كلها، فتصبح فيروز من أحب المطربات الإذاعيات إلى المستمعين، ومع ذلك فهي لم تتخلّ عن طابع الحزن والكآبة، رغم انها تملك رصيداً جيداً من الجاذبية وخفة الدم وسرعة الخاطر، والعالمون ببواطن الأمور وخفايا النفوس يعلمون أن مصدر حزن هذه المطربة هو قلبها الصغير الذي بدأ يتفتح من جديد على أنداء الحياة”. وفي نيسان من العام نفسه، عادت “الموعد” وأجرت حديثاً مع النجمة الشابة، واستهلّت هذا الحديث بالقول: “عندنا في لبنان مطربة ذهبية الصوت نالت أضخم شهرة فنية من دون أن تبدو على المسرح، بل ذاعت شهرتها من طريق الراديو فقط”، وتوجّهت إلى “المطربة المشهورة الخجولة التي يندر وجود صوت مثل صوتها” بالسؤال التالي: “كانت الإشاعات قد رشحتك للزواج من الملحن عاصي الرحباني، فهل هذا صحيح؟”، فأجابت: “أكتب على لساني أنو هيدا كلّو خلط واختراعات صحافيّة”.

في حزيران من العام نفسه أيضاً، خصّت مجلة “الكواكب” المصرية فيروز بمقالة مثيرة من توقيع سليم اللوزي حملت عنوان “المطربة التي تهاب المجد”. دخل الصحافي منزل النجمة المتواضع في زقاق البلاط، وسألها عن أمنياتها، فقالت: “هل تريد الصدق؟ إنني أغني لأني في حاجة إلى الغناء، وأعزّ أمنياتي هي أن أجد ابن الحلال فأتزوّجه وأعتزل الغناء”. بحسب هذا التحقيق، كانت فيروز تكرّس كل وقتها لعملها في الإذاعات، باستثناء يوم الأربعاء، حيث “تترك جميع مشاغلها لتذهب إلى مؤسسة صغار العمال اللبنانيين التي يديرها الخوري أنطوان قرطباوي، ويتعلم فيها الصغار العلم والفن الصناعي مجاناً لوجه الله واليتيم الفقير”، وهي “تحبّ كثيراً هؤلاء الصغار، فتذهب إليهم في الضاحية البعيدة من بيروت هي وملحنها الأستاذ رحباني وتقضي معهم ساعات لذيذة في ضحك ومرح وغناء وأناشيد وطنية”. كذلك، سأل سليم اللوزي النجمة الشابة: “ولماذا لا تحاولين الظهور في السينما؟” فأجابت: “إذا كنت أخاف أن أظهر على المسرح، فما بالك في السينما”. فأضاف معلّقاً: “وتزداد عجباً وحيرة، ثم تتذكر قول ملحنها الأستاذ عاصي رحباني من أنها نص خوتة”. ثمّ ختم تحقيقه بالقول: “هذه صورة يومية سريعة لهذه المطربة الصغيرة السن الكبيرة الاسم، فهل تعتقد أنها فتاة ممتازة أم نص خوتة كما يقول ملحّنها؟ هذا هو السؤال كما يقول شكسبير”.

خبر الموسمهكذا تابعت فيروز العمل بلا كلل، وشكّلت ظاهرة فنية استثنائية مع الأخوين رحباني تضاعف نجاحها في الأشهر التالية. كعادتها، رافقت “الصياد”، هذا النجاح المزدهر، وكتبت في شباط 1954: “هي إذ تغني فبدافع من عاصي الرحباني ولأجله وحده، والمستمع يشعر حين تنشد عتاب أو راجعة، أنها لا تغني الحبيب المجهول، بل تغني الحبيب المعلوم الذي نعرفه جميعاً ونقدرّ عبقريّته الفنية”. وأضافت المجلّة في نيسان: “أفيروز هي التي خلقت الرحبانيين أم الرحبانيان هما اللذان خلقا فيروز؟ فضل الرحبانيين على فيروز كفضل فيروز على الرحبانيين بالتمام والكمال وحسن الأفعال”. في غمرة هذا النجاح المشترك، ومن دون مقدّمات، في مطلع السنة التالية أُعلن أخيراً الخبر الذي طال انتظاره. 

في 21 كانون الثاني 1955، كتبت مجلة “الجمهور الجديد”: “أعلن عاصي الرحباني هذا الأسبوع زفافه على المطربة المبدعة فيروز وحدّد له يوم غد الأحد موعداً له. ويُعتبر هذا الزواج خبر الموسم وزواج الموسم الفني في آن واحد لما رافقه من حوادث وأحاديث وأغان. فمنذ أكثر من سنتين والشائعات تلاحقهما وترشّحهما كل يوم للزواج القريب أو الانفصال الأقرب. وهذه “عتاب” و”راجعة” و”مين دلّك بالهوى عبيتنا” و”سمعت الجيران بيقولو يمكن يكون عم يضحك عليها”، وعشرات الأغاني التي استلهمها مؤلفها وملحنها عاصي الرحباني من التطوّرات التي رافقت حبه، والتي غنتها فيروز بكل جارحة من جوارحها، تروي لنا خلجات قلبين سعدا وشقيا بالحب مدة أربع سنوات، ثم سعدا مؤخراً. تهانينا وتمنياتنا القلبية إلى العروسين وبالجاه والبنين والألحان”.

*المدن