سعياً منه إلى طرد الضّجر وليس الجوع، اهتدى خميس أورويل إلى حيلةٍ حاول من خلالها كسر الروتين القاتل وتوالي المشاهد والوجوه والأحداث نفسها. قرّر أن يرتاد، كل مساء، واحدا من مطعمين متلاصقين يقدّمان أكلة الشوارما؛ ويوجدان غيرَ بعيدٍ عن مسكنه؛ يتنقل بينهما بحرّية ووفق سجيته. ومما شجّعه على ذلك، حتى صار بالنسبة إليه بمثابة طقس يومي، أنه أصبح يجد متعةً ما في فصول العداء، ما خفي من كواليسها وما ظهر، بين مالكي المطعميْن. كانت في كلا المطعمين شاشتا تلفاز عملاقتان مثبتتان في خط متواز. وفي وقتٍ يضبط أحد المحليْن شاشته، خارج أوقات نقل مباريات الكرة، على قناة العربية، يضبط غريمه شاشة تلفازه، خارج مواعيد هذه المباريات، على قناة الجزيرة.. ولاحظ خميس شدّة العداء المستحكم بين الغريمَين من خلال تتبّعه النظرات الشزراء والساخطة، وحتى ذلك الصمت “الصارخ” بكل معاني الحقد والغلّ والضغينة بين عمّال المطعمين. كان هؤلاء يتشجارون إثر كل خلاف بينهم حول مدى أحقيتهم باستقطاب هذا الزبون أو ذاك. وكان كل طرفٍ يتمنّى لو احترق سيخ شوارما الطرف الآخر.لاحظ خميس أورويل، أيضا، أن مالك العقار الذي يمتلك كذلك مخبزا في البناية ذاتها يجبر مالكي المطعمَين على شراء رغيف الشوارما من مخبزه فقط. كما كان يرتاد بحرّية أحد المطعميْن، ضاربا عرض الحائط الخلاف المحتدم بينهما، طالما أنّ كل ذلك الخصام والجدال والتنابز في صالحه، ما دام يرفع أرباحه ويزيد حافظة نقوده انتفاخا. كما لاحظ خميس أورويل أمورا عجيبة، منها أن القناتين، على الرغم من أنهما تبثان برامج متضادّة، فقد حدث، يوما، أن بُثّ حدث عالمي على الهواء مباشرة نقلته القناتان، وكان المحللون يناقشون الموضوع المثار وفق رؤيتين متضادّتين، لكن كلتيهما تستندان إلى قراءة “منطقية” تمنحها قابلية للتصديق. وانتبه خميس إلى أن عيون الزبائن، وحتى عيون عمّال المطعم، تتحول، أحيانا إلى شاشة المطعم الآخر.
وبمرور الوقت وتوالي الأيام على تلك الوتيرة، صار خميس أورويل يعود من جلساته المسائية الطويلة ذاهلا، مشوّش الذهن، خصوصا حين يضطر إلى سماع كل تلك التحليلات في أدق تفاصيلها بين القناتين. وكثيرا ما وجد نفسه تائها، وقد تداخلت الحقائق في ذهنه أو تقاطعت. ففي غمضة عين تنقلب “الحقيقة” التي كان يظن أنها مطلقة ويقينية بشأن حدث ما إلى نقيضها تماما، ما بين تحليل وتحليل مضادّ، بفعل تناقض المشاهد والصور والأفكار وتعدد زوايا النظر. ويصير رأسه ساحة لمعارك حامية بين المعطيات المتناقضة، فيدوخ ويتشوش ذهنه، وهو مستلَب وسط دوامة صراعاتٍ لا يملك إزاءها أدنى ردّة فعل.
وما بين ليلةٍ وضحاها، ينقلب ما كان يعتبره حقيقة راسخة، أو معطىً ثابتا، حول مسألة أو حدث ما إلى نقيضه بالضبط، بمجرّد ما يغيّر مجلسه أمام شاشة أحد المطعميْن إلى شاشة الآخر.. فجأة، وفي ما يشبه سخرية أقدار، يتحوّل المجرم إلى بطل، وينقلب الضحية جلادا، فقط لأن قدميه قادتاه إلى أحد المطعميْن وليس إلى الذي يجاوره، فبين شاشتَي المحليْن يتواصل عرض المتناقضات؛ و”كلٌّ يغنّي على ليلاه”. هكذا يجد خميس نفسه، في كل مرة، وسط دوامة تُواصل تقاذُفَه من هذه الضفة/ الشاشة إلى الأخرى، المناقضة لما في الضفة “المقابلة” من “حقائقَ” تكاد تكون بالنسبة إليه مسلّمات، لولا أنه اختار إحدى الشاشتين وداوم على مشاهدة ما تعرض، بدل هذا الصراع المرير بين “الحقيقتين” اللتين اكتشف أنهما تشملان كل شيء إلا الحقيقةَ!
وكما لم يتوقع خميس يوما، وفي لجّة دوخته بين الحقيقتين اللتين استمرأ المطعمان تقديمهما طوال سنوات من مساءاته، حدث ما لم يدُر بخلَده يوما.. في لحظة مفصلية، وفي أوج احتدام وطيس العراك بين مديرَي المطعميْن، قرّر أحدهما تهشيم شاشة تلفاز مطعمه. أما مدير المطعم المجاور فكان أكثر حكمةً وتحكّما في أعصابه؛ اكتفى بـ”ضبط الموجة” على تردد قناة السودان. وكانت الأخيرة، في تلك اللحظة التي اعتبرها صديقنا خميس “تاريخية” وفارقة، تبث الأغنية الشعبية الساخرة “كل زول والزوجة بتاعه إلا ده ما عنده مره”.. ولسخرية الأقدار، وكما لو أنّ أي واحد منهم لم يكن مقتنعا حدّ الاعتقاد، نسي كل رواد المطعم وعمّاله، وحتى عابرو السبيل، كلّ المشكلات السياسية، وانشغلوا بقضية “الزول الأعزب”.
المصدر: العربي الجديد