إبراهيم علي المطرود، محام، وشاعر سوري
أوراق 19-20
نقد
صباح الخير ياجاري
يَبُو گامةٍ زينة
علواه تْرَحلَ أهلك
وتجيبهم هينا
بهذا البيت الفراتي الرقيق، كنت أتلقى تحية الصباح يوميّاً، من الشاعر الفراتي المرحوم محمود الذخيرة، عندما كنّا نعلّم في مدرسة الوحدة العربية الابتدائية في حي المشلب، لعدة سنوات بدءا من 1983 ومابعدها. هو سليل الشاعر الشعبي محمد الذخيرة العالم حليلة، كما لقبه أهل زمانه، إذ برع في شعر الموليّا الفراتية..حيث الفرات والزيزفون، والتوت والطرفاء والعاقول، والشيح والقيصوم، ورد الخاثر والندى.. هنا نما أبو جوَان محمود الذخيرة.. الطبيعة الفراتية وهباتها الجمالية، العائلة وتحليل الشعر وقرضه.. والهوى.
زار النهر.. الذي تذهب إليه الورّادات لجلب الماء، على ظهور الدواب في القُرَب أو القواديس، خطرات عدة، وقد حضرت الحبيبة ونهلت من الفرات وغادرت مع صويحباتها. جلس بجانب الماء وقد شمّ أثر طيبها، ولما يزل في الماء فقال (نايل):
أُصدق يجاري النهر اليوم ماجنّك..؟
بميّك كِرَفت المسك إريام وِرْدنّك
برع الذخيرة في لون (النايل)، وقد كتب مايجاوز ألف بيت، عن الشوق والحب والحنين، والغزل والفراق، وغيرها من أنواع الشعر الوجداني ومنه:
الزين لُمْن انتلاقى
بعيونّا أُوكات
ضحكة عيونك غوى
وحاجوزنا البسمات
وكذلك:
الدنيا بس أربعة
وباجي بُگى ماچان
ليل وشباب وهوى
ومْلايع الخُلّان
ومن قصيدة طويلة له، تسمى مصرع، حيث يتم استيلاد البيت الثاني من الشطر الاخير للبيت الأول، وقد بدأها بهذا البيت الجميل:
لقمان جرح الهوى
تاه بتواصيفو
لاهو طبيبي ولاني
أصبر على حيفو
جيبم طبيب الهند
يداوي على كيفو
يبري جروحي قبل
ليلة وعشوية
ومن العتابا الفراتية أنشد:
رمح من إيد أبو گذيلة دواعيج
لأجل الغُر أبو عيونن دواعيج
إن چان تريد لقليبي دوا عيج
النزل تايلفت النشمي رقاب
وكذلك:
أبد ماغاب جدواهم عن العين
وعليهم لسهِّر الحارة من العن
سحول مرير واشلهن من العين
ومجاريهن على فقد الاحباب
كتب الشاعر محمود الذخيرة القصيدة ذات الشطرين، تغزّل فيها بالمرأة الفراتية، ومن أجمل ماكتب في ذلك قصيدة “شحدت الشوق”، ومنها هذه الأبيات:
شحدت الشوق من عينك
أخاف إنَّك ترجّعني
انا لطاريك لُمْنَ أسمع
أحسلك نار تلچعني
يريت إني منثور
بديك تقوم تقطعني
تشمني وألمس خدودك
وعلى شفوفك تمرمعني
حضون الناس ضيّجة بحيل
حضنك بس يوسعني
أما قصيدة (بالعشق ما أقدر أقُلّك) فإن لها شجونها وحكايتها، وقد حضرت تفاصيل مخاضها، ومنها هذا المقطع:
بالعشق مَ اقدر أقلك
لا تحاسبني بنظرة
لام ريجك لي تخمّر
يخلط الكيف بمسرّة
لم يكن الوطن بعيداً عن اهتماماته الشعرية، فكتب قصيدة (ديرة هلي) وهي قصيدة رائعة، منها أقتبس هذا المقطع:
ديرة هلي…
بيها القمر عاشج خيال الليل
متوايج
بيها الزلم
غابات من عوسح حوايج
تربي جدايل سود لكحيلة
فزعت من فوق هلهولة
يدگ الگاع حافرها
اجدحت صوانها نار…
غنّى له المطرب الشعبي الراحل حسين الحسن، والذي لازمه كثيراً في حياته. كما انه كتب جُلّ أغاني فرقة الرقة للفنون الشعبية.
كان شاعراً يحب ويحترم المرأة بوصفها الأم والحبيبة، والزوجة والأخت والابنة. وقد كان يعلم بمحاولاتي في الكتابة الشعرية الشعبية الفراتية، وكنت أنكر ذلك أمامه احتراماً لقامته. وقد أوصاني بأن أذكر المرأة بعفافها وقيمتها الكبيرة، وأحترمها في كتاباتي، كما كان هو على هذا الديدن.
تجدر الإشارة هنا، إلى أنه كتب أيضاً في الشعر العمودي، باللغة العربية الفصحى، وله قصائد عديدة في ذلك.
في أوخر أيامه بدأ بكتابة دراسة توثيقية عن الرقة (الرقة في ثلاثة قرون)، صدر منها الجزء الأول في الحياة البشرية، ولم تصدر الأجزاء الأخرى حتى تاريخه، وهي جاهزة للنشر قبل رحيله.. وقد اطلعت عليها حينذاك..
محمود الذخيرة شاعر متميز، يجيد فن الكتابة الشعرية، في أشكالها التعبيرية المختلفة، غير انه أخلص للشعر الشعبي الفراتي، وتربع على عرشه.