محمد محجوب: في ترتيب علاقة المؤلّف بمنظومة النشر

0

في مناسبات مثل “اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف” (23 نيسان/ أبريل من كل عام)، يسود خطاب تفسيريّ لأزمات الكتاب، أو رثائيّ يندب حظّ المؤلفين والناشرين والقرّاء معاً، ما يُنشئ فقاعة تتضخّم عاماً بعد آخر وباتت تُخفي الممكنات العمَلية لإنجاح صناعة الكتاب.

أوّل أمس الجمعة، تحدّث أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية، محمد محجوب، عن تصوّراته لتطوير منظومة إنتاج الكتاب، وذلك عبر صفحة دار النشر “كلمة” على منصّة “فيسبوك”. تحدّث محجوب  من أكثر من موقع، كمؤلّف (وقد صدرت مؤخراً مجموعة من مؤلفاته: “استشكال اليوم الفلسفي” و”قصيد الفلاسفة”، و”أفلاطون: الوجود والمثل والجدل”)، وكمدير سلسلة فكرية (“حروف الفلسفة” ضمن دار “كلمة”)، وقبل ذلك كمشتبك مع منظومة الكتاب باعتباره قارئاً وباحثاً ومشرفاً على مؤسّسات ثقافية وأكاديمية.

كان من الواضح أن الكاتب التونسي يودّ أن ينأى بخطابه عن  المكرّر في مثل مقام “اليوم العالمي للكتاب” ويذهب بمقولاته إلى محاولة التفكير في تطوير أفق جديد للعلاقات بين المشتغلين في مجال الكتاب بما يخدم كل الأطراف.

يشير محجوب في بداية حديثه إلى الترابط بين الكتاب وحقوق المؤلف، حيث لا يمكن الفصل بينهما. يقول: “في العادة، نظنّ أن إنتاج الكتاب هو تلك العملية التقنيّة التي يمر منها النص كمراحل التدقيق والإخراج الفنّي وتسوية المخطوط، بحيث يكون قابلاً أن يُطبع وأن يقرأ ويسوّق على مستوى واسع”.

يلفت محجوب أنّه من الوجيه العودة، قبل ذلك، إلى العلاقة التي تربط الكتاب بالمؤلِّف، وهي وجه أساسيّ من وجوه إنتاج الكتاب بدءاً من تصوّره الأول إلى تحريره، ومن ثمّ وصولاً إلى قراءته. يصف محجوب هذا المستوى الأخير بأنه “إعادة إنتاج للكتاب”، وبالتالي لا يمكن فصله عن المنظومة العامة لصناعة الكتاب، وهي عملية يلفت إلى أهميتها بإشارته إلى أن “الكتاب الذي نقرؤه أو نكتبه ما هو إلا إعادة إنتاج لكتب أخرى سبقته، فكلّ كتاب يُنسل كتباً أخرى”.

يربط محجوب بين منظومة إنتاج الكتب وبين أثرها في الإنسان والمجتمعات، فالكتب بحسبه “مناسبات لتعهّد النفس” كما أنها “تجعل العلاقة مع الذات موسوطة (أي تخرجها من انغلاقها عبر وسيط)، بما في ذلك من تأمّل وتفكّر”.

يقول: “نستطيع بثقافة الكتاب وبثقافة قراءة الكتاب أن نداور كلّ غرائز العنف التي يمكن أن تحيط بنا”، ويضيف: “إن مجتمعاً لا يطوّر الكتاب هو مجتمع يعرّض نفسه للعنف المباشر، وكلما ضاقت معاجمنا اللغوية كلما جرى تعويض هذا الضيق بالعنف المباشر بين الأفراد”.

يعرّج هنا محجوب على علاقة المجتمعات العربية بالكتاب حين يلاحظ “حالة من النفور المعمّم من الكتاب”. يعلّق: “إن أي ثقافة لا تعطي قيمة للكتاب هي ثقافة لا تعي ما تفعل، وحين نرى الوضعية التي يؤول إليها الكتاب حالياً في مجتمعاتنا العربية فإننا نتأسّف كثيراً”. وينتقد في سياق آخر ترديد شرائح واسعة في الثقافة العربية بأن زمننا ليس زمن الكتاب وأن وقتنا وقت الوثيقة الرقمية، من دون الانتباه إلى حاجاتنا الحضارية، وعدم ضرورة أن نقرّر ما تذهب إليه ثقافات أخرى.

ينتقد محجوب أيضاً غياب المعايير المِهنية في صناعة الكتاب عربياً، فيكشف: “ليس لدور النشر العربية مواثيق نشر واضحة من ناحية ضبط اللغة وضبط المادة المعرفية والأمثلة والإحالات”. ويعتبر أن أخطر ما يمكن تعريض الكتاب إليه هو “المرور مباشرة من الحاسوب إلى المطبعة”. يرى محجوب، في هذا السياق، بضرورة “إخضاع كتابٍ جاء مخطوطاً إلى ميثاق تحريريّ، وهذا الأخير ليس دوره إلباس الكتاب جبّة تقنية وإنما عليه أن يكون مساعداً على القراءة”.

كذلك، ينتقد محجوب عمليات النشر بحدٍّ أدنى من النسخ، حتى وإن كان لذلك التصرّف وجاهته من زاوية تقلّص عدد القرّاء، إذ يرى أن “الناشر إذا اكتفى بأن يكون فقط صدى للوضع الموجود لن يستطيع أن يُطوّر أو يقدّم إضافة. أي أنّ هناك دوراً نضالياً ينبغي أن يضطلع به من الناشرون”.

من جهة أخرى، يعتبر محجوب أنّه من الضروري مقاربة “حقوق المؤلف” من منظور جديد يبني علاقات جديدة بين دور النشر والمؤلفين. يقول: “آن أوان وضع مسألة حقوق المؤلف عل الطاولة بشكل واضح أمام الناشرين وغيرهم من المتدخّلين في صناعة الكتاب، لأن الاستثمار في حقوق المؤلّف هو استثمارٌ في جودة الكتاب ومضامينه”.

يؤكّد محجوب أن “كلّ مكافأة قاصرة على أن تعادل جهد المؤلف”، فهو يرى أن إنتاج الكتاب، من منظور المؤلّف، مكابدةٌ وتعبٌ أو لا يكون. فالكتاب، بعباراته، “نحتٌ من العظم واللحم”.

تحيلنا هذه الكلمات إلى نص نشره محمد محجوب على صفحته في “فيسبوك” في نفس اليوم، وفيه يتناول تلك العلاقة العميقة بين المؤلف وكتابه. يقول في هذا النص: 

يمكنني أن أكون منتج أحذية، أو صاحب معمل أنابيب، أو فوانيس كهربائية. بصراحة، ما الوجداني في علاقتي بصناعتي تلك؟ من الجائز أن أكون سعيداً بها لأنها تحميني من الخصاصة، بل تدرّ علي أرباحاً وفيرة وتجعلني من “وجهاء القوم”. ولكنّ وجهاء القوم يمكنهم أن يكونوا صانعي لوحات قبور، أو حاويات فضلات. فهذه أيضاً يحتاجها الناس ولذلك تدرّ على منتجِيها كثيراً من الأرباح يستطيعون بها حتّى أن يؤثروا في الانتخابات إن هم أرادوا. ولكنه لا يمكنني أن أقول للناس عندما أبيعهم تلك المنتوجات إنّي أبيعهم قطعة من نفسي.

وكان يمكنني أن لا أكون أقلّ سعادة حتى لو غيّرت صناعة الفوانيس بصناعة الملابس أو غيرتُ إنتاج الحاويات بإنتاج الأواني الفخارية. فكلّها ستدرّ علي ربحاً يجعلني وجيهاً ومكتفياً. 

أمّا أنا، هذا الكاتب، أو المؤلِّف الذي لا ترون، فإني عندما أبيعكم كتابي فقد بعتكم كياناً نحتّه من أعماق تجربتي الوجدانية: تخيّلتُ فيه ما لا يمكن أن يتخيّله أحدٌ غيري، وغصتُ فيه حتى أدركت من عمق كياني جوهر الإنسان. نفثت فيه من حزني ومن قلقي ومن خوفي ومن رجائي. أودعتُ فيه شكوكي ويقيناتي ثم ارتجّت يقيناتي فنقلتها إليك وهي ما تزال ترتجّ ولا تكاد تستقرّ. ولكنّ كتابي ذاك لا يُجيب صاحبة المنزل إلى حاجتها لأوعية التنظيف ولا سكّان الشقق الذين يستبدلون بفوانيسهم المحترقة فوانيس جديدة، ولا إلى حاجة العطشان إلى خمرة قرقف يشتهيها.. 

أنا أخاطب بكتابي كلّ هؤلاء وأعرض عليهم للشراء شيئاً يمكنهم بكلّ سهولة الاستغناء عنه. هؤلاء هم الذي أخاطبهم بكتابي… هؤلاء الذين يمكنهم أن لا يلتفتوا إليّ وأن لا يقرؤوا كتابي أبداً. فكتابي ليس منتوجاً تتوقّف عليه حياتهم اليومية. هؤلاء هم الذين أعرض عليهم أن يشتروه… كيف يمكنك أن تجد في مَن قد شبع وارتوى حاجةً إلى كتاب؟ كيف يمكنك أن تجد في مَن لم تترك له الحياة دقيقة يخلو فيها إلى نفسه حاجة إلى كتاب؟ كيف يمكنك أن تجد في من حاصرته الإغراءات وأثخنته الأحكام المسبقة حاجة إلى كتاب؟ كيف يمكنك أن تتسلّل إلى منطقة الصمت التي بينه وبين نفسه فتجعلها خطاباً وإحساساً وتفكراً ووجداناً وتعرض عليه أن يعمّر كل ذلك بكتاب؟ هذا هو التحدي.

(العربي الجديد)