الثورة السُّوريَّة حالة إشكاليَّة بفرادتها بكافَّة مُعطياتها، وذلك منذ أوَّل هُتاف في سبيل الحُريَّة عام ألفين وإحدى عشر (2011) في منتصف شهر آذار الثَّالث من نفس العام، إلى مُخرجاتها ونهاياتها غير المحسوبة بمأساويَّتها، التي توزّعت على ضفاف الكون أجمع، وليس مُستغربًا لو قلنا: بأنَّ الشَّقاء والخسف والعذاب والخوف الذي نال السُّوريِّين؛ لو وُزِّع على سُكَّان الكوْن لكفاهم أجمع.
فهل فعلًا يستحقُّون كلَّ ذلك..!!؟.
جانب الأدب هو الأهمُّ في مسارات الموت والدمار، والهجرة والتهجير، والاقتتال الطّائفي والمذهبيِّ، وأياد الميلشيات المحليَّة والغريبة الوافدة من خلف الحدود، والتمويل لآلة القتل كلُّ ذلك لم يكن إلّا حلقة وسخة في سلسلة طويلة من الخيانات والمؤامرات على دروب الشَّيطان، والأيادي السَّوداء تُحرُّك بيادقها على رقعة ذات مُربَّعات سوداء وبيضاء، كما رقعة الشَّطرنج تتَّسع لجميع بيادقها ومعاركهم الطَّاحنة، لتصل إلى النهاية “كِشْ مَلِكْ“، وتُسدَل السِّتارة على كثير من الأسرار التي تُنسى وتموت بموت أصحابها.
ومن حقِّ مُتسائل السُّؤال:
لماذا الأدب هو الأهمُّ، وهل بالفعل هو الأهمَّ في معمعة الحدث السُّوريِّ والعربيِّ؟.
بلا أدنى تردُّدٍ يمكن الجزم بذلك، لأنَّ الأدب بجميع مستوياته من رواية وقصة ومسرح وقصائد: هو السِّجلُّ الواعي الصّادق بتدوين اللَّحظة، وبعد مئات السِّنين يُعيد الماضي إلى ساحة الحدث ساخنًا طازجًا، كما وقع ساعة حدوثه عندما حدث.
وعلى الجانب الآخر يجب أيضًا التوقُّف عند قيمة الأدب، وما قيمته إذا لم يكُن مُنحازًا للقيمة الإنسانيَّة المُجرَّدة، للإنسان كَوْنه إنسانًا ينتمي لهذا الجزء أو الطَّائفة، قيمته كإنسان أغلى وأثمن شيء في الوجود.
إذا جاز وصف أدب المرحلة بالأدب الثوريِّ، لأنَّه عاين وعاصر ودوَّن ووثَّق: الوجع والدُّموع والموت تحت قصف البراميل والكيماويِّ، والذَّبح والتهجير الجماعيِّ الأبارتيد كما حدث في جنوب أفريقيا العنصرية للعرق الأبيض ضدّ السُّود، بينما في سوريا حدث التهجير الجماعيُّ لفئات من الشَّعب السُّوريِّ كما حدث في (حمص والقُصيْر والزبداني والسيّدة زينب)، وسواها من المناطق الكُرديَّة ضدَّ العنصر العربيِّ في شمال وشرق سوريَّا.
في إحصائيَّة للنتاج الأدبيِّ الثَّوريِّ السُّوري، إنَّما هي مُقاربة حقيقيَّة تتماشى مع واقع شعب سوريَّا، الذي تجاوز عقده الأول بسنة ليبتدئ بالثَّاني، فللمُتأمِّل كم فيها هذه الفترة من أحداث مختلفة من الحكايات وممن شاهدوا وعاينوا وعايشوا؛ فكانوا كشاهد عيان، حملوا قضيّتهم السُّوريَّة مأساة التَّاريخ غير المسبوقة بهمجيَّتها المجنونة.
فعلى صعيد الأعمال الروائيَّة المنشورة منها ورقيًّا وإلكترونيَّا ما يزيد على الخمسمئة عمل روائي، جاء بمستويات سرديَّة نقلت، وسجَّلت الحدث بحذافيره الأمينة، فهو أدب مرحلة، عكس صورة ثابتة على صفحات مقروءة في أنحاء العالم، ومنها ما تُرجِم إلى اللُّغات الأخرى؛ ليحمل القضيَّة السُّوريَّة إلى أحرار العالم.
وعلى الجانب الآخر النقيض للأدب الثَّوريِّ، الذي يُمكن وصفه بأأأدب العِهْر المُؤَيِّد للنِّظام، وهو الذي يجنح للتَّشبيح والتعفيش، والدعوة لقتل وتدمير المُعارضين، كما جاء على لسان “أدونيس” أهمَّ الرُّموز الثقافيَّة السُّوريَّة على السّاحة الأدبيَّة العربيَّة، في مقولات أقلُّ ما توصف بأنَّها طائفيَّة حاقدة، وهذا المنحى من الأدب، هو الذي يقول بفكرة المُؤامرة الكونيَّة على النِّظام.
مساران لكلِّ منهما مُبرِّراته المعقولة وغير المعقولة، والواعية والمُضلِّلة، والإنسانيَّة والجاحدة لقيمة الإنسان، والدّاعية لسحق كلِّ ما يقول: لا.. للدكتاتوريَّة. الأدب يكتسب شرعيَّته من عمق تأثيره في الوعي البشريِّ.
مُقابل الأدب الرَّاسبوتينيِّ التَّشبيحيِّ الدِّيماغوجيِّ القائم على المنفعة والمكاسب، والتبرير لكلِّ أنواع القتل والإجرام، التي قام ويقوم بها النظام وأزلامه منذ أكثر خمسين عامًا، ويرفع شعاره الذهبيِّ: “إلى الأبد..“. وكأنَّهم ما خُلقوا إلَّا ليكونوا عبيدًا؛ وليبقوا تحت رحمة البُسطار.
وممَّا سيُؤثَر عن هذه المرحلة من حياة السُّوريِّين الثقافيَّة، التعالي والتَّسامي على الجراح من أجل المُستقبل رغم عدم وضوحه، والتشبُّث في الحياة من أجل البقاء والإسهام بالفعل الإنسانيِّ. وفتح أدب الثورة خلال الفترة الماضية، أبواب أدب السُّجون والمعتقلات، وأدب اللُّجوء، وأدب القوارب والموت غرقًا في البحار، وأدب البراميل والغازات الكيماويَّة السَّامة، والأدب الاجتماعيِّ بوصفه الدَّقيق لحالات الفقر والجهل والمرض، وكلُّ ذلك جرى بتوافق عالميٍّ لِوأْدِ فكر الثَّورة السُّوريَّة وأدبيَّاته السِّلميَّة، وتشويهه بالقتل والإرهاب المُتلبِّس بلبوس الإسلام الزَّّائف، وإيصال سوريَّة والشَّعب السوريِّ للمرحلة الصُّفريَّة، وما أدَلُّ على ذلك، إلَّا من مُؤشِّرات التضخُّم الاقتصاديِّ، وتهديم جميع البُنى الاقتصاديَّة والخدميَّة للبلد.
وهذا ما جاءت عليه بالتدوين والتَّوثيق أدبيَّات هذه المرحلة، بالوصف الدَّقيق، والتحليل المنطقيِّ بواقعيَّته، من خلال الأعمال الروائيَّة التي أفرزتها طبيعة المرحلة من حياتنا كسوريِّين.
*خاص بالموقع