لم تكن الصورة الكبيرة ذات البرواظ الذهبيِّ المُزخرف في واجهة غرفة الضّيوف؛ إلَّا من هرطقات والدي أمين الحلقة الحزبيَّة، ليُظهر مزيدًا من الولاء للقائد الرّمز.
منذ صغري منذ أيَّام المرحلة الابتدائية كرهت صورته في الصفّ، وعلى أغلفة دفاتري التي اشتراها والدي من المُؤسّسة الاستهلاكيَّة، وعلى قُمصان “تي شيرت” الطَّلائع الصَّفراء، لم أكُّن أفهم معنى الازدواجيَّة بمعناها الحقيقيّ الذي وعيتهُ مُؤخَّرًا، ممَّا سمعت على الكثيرين ممّن كان بعضهم السُّجون أو خرجوا منهما بتهمة ازدواجيَّة الانتماء لتنظيميْن حزبيَّيْن مختلفين.
حرص والدي بالتركيز على تثقيفي بالنَّشرات الحزبيَّة الشهريَّة، وعلى الأخصّ مجلّة “المُناضل” التي غصَّت بأعدادها المختلفة على مدار سنوات أرفُف مكتبة بيْتنا، وأصبحت تُنافس الكتب الجامعيَّة قَوام المخزون الثقافيِّ للوالد.
في العدد الأخير من “المُناضل”، بدون ضغط أو إكراه، وفي لحظة إلهام، والتَّعب أخذ منِّي كلَّ مأخذ، إثر عودتي من لعب كرة القدم في ساحة حارتنا، بعد غسيل يديَّ وقدميّ أمام خزَّان الماء الإسمنتي المليء بشكل دائم في ساحة البيت الخارجيَّة، من روائح بوط الرِّياضة العتيق، وقبل دخولي للبيت، لأريح رأسي من تأنيب والدتي، وتأفُّف والدي من
الرّوائح المُقزِّزة.
وقعت عيني على فهرس المجلة على عنوان “الانتهازيّة والازدواجيّة” أثناء تصفُّحها، لم أكُن مُتحمِّسًا للقراءة، ولكن لأفلت من استجواب لا بدُّ منه لتأخُّري في اللَّعب إلى ما بعد المغرب، وإهمالي لواجباتي المدرسيَّة، التي من المُفترض الانتهاء منها قبل خروجي للعب، بعد خروج أبي إلى مقر شعبة الحزب لاجتماعهم الأسبوعيّ.
ما إن رآني منسجمًا بقراءة المُناضل في غرفة الضّيوف، من طرف خفيٍّ دون أن يشعر بنظراتي، أثناء التفاته لأمِّي عندما كانت تحكي له شيئًا لا أذكر الموضوع، وليقيني بعد أهميَّه لم أنتبه له بدقَّة، المهمّ أن ينسى تأخُّري، ويتركني من البهدلة، ولا أرغبُ بتطوُّر الأمر لاستخدامه حزامه الشخصيِّ إذا ما لزم الأمر، فإنَّه لن يتردَّد أبدًا، أو قطعة بربيش الماء التي قصَّها للعقاب، كان ينوي أخذها معه لطلَّابه في المرحلة الإعداديَّة، لاعتقاده الدَّائم:
-“البربيش طريٌّ ولا يؤذي مثل العصا”.
اِبْتسمَ لي على غير عادته:
-“الآن.. الآن أعجبتني يا عاصم، أتمنَّى أن أراكَ دائمًا، وأنت تقوم بتثقيف نفسكَ، لأنَّ الثَّقافة يا بُنيّ أهمّ من اللَّعب اليوميّ مع أولاد الحارة، اللَّعب بلا فائدة، أمّا هنا فأنتَ تُغذِّي فكركَ، وبعد سنتيْن عندما يحينُ التقديم على العُضويّات العاملة، يتزامن مع اِنْتهاء امتحانات الثانويَّة العامَّة، ستكون جاهزًا، وهذا سيُسهِّل عليكَ المقابلة أمام اللِّجنة القادمة
من فرع الحزب، والقيادة القطريَّة، ومن يكتسب العضويّة العاملة؛ له الأفضليَّة في القبولات الجامعيَّة”.
للمرَّة المئة بلا شكٍّ سمعتُ هذه الكليشة منه، بينما عيناه مُركَّزتان على صورة القائد. لا أدري.. هل كان يقول ذلك على مسمع منها. ليتأكَّد إخلاصه داخل ومع أسرته لمسيرة القائد الرَّمز.
تركني بعد اطمئنانه على متابعتي، وخرج لتلبية طلب أمِّي بخلع ملابسه الرسميَّة لكي تبقى على نضارتها، ولا أن تخرب كسرة البنطال المكوي بعناية ظاهرة، ولبس البيجامة الخاصَّة بالبيت.
عيناي الرَّئيس الواسعتان في الصُّورة تُبحلقان فيَّ بتركيز. شعورٌ داهمٌ بالخوف الحقيقيّ لأوَّل مرَّة أُصاب به. حاولتُ استبعاد الأمر، وتناسي الموضوع وأنا أنظر عبر النَّافذة المُقابلة لي، بعد أزحتُ السّتائر لأرى الضوء المنبثق عبر نافذة جيراننا في الطّابق الثّاني، ابنتهم في نفس صَفِّي يقولون: “مُتفوِّقة.. وفي كُلِّ سنة تأخذ الأولى”.
سأحاول الثَّبات وعدم الشّعور بالهزيمة أمام رعب الصُّورة، وعُقدة تفوُّق رهام الدَّائم،
استجمعتُ بقايا شجاعتي برُعونة لو علم والدي عنها، لما كان سيتهاون في حفلة عقاب على شنيع ما أفكِّر به، ولو سمعني وأنا أخاطبُ صاحب الصُّورة:
-“أنتَ مُجرَّد صورة بالأسود والأبيَض حبيس إطار ذهبيٍّ، تبرَّع به النَّجار صديق أبي مجَّانًا؛ عندما طلب مساعدته في لإدراج اسم ابنه في القوائم المُقترحَة للعضويّة العاملة؛ لاستباق لحظة القبولات الجامعيَّة لهذا العام”.
صوت أمِّي تُناديني:
-“يا عاصم العشاء جاهز.. لا تتأخَّر”.
تابعتُ حديثي بصوتٍ خفيضٍ لا أكاد أسمعه:
-“أيضًا أنتَ حبيس غُرفتنا، وبعد قليل، سأطفئ الضُّوء، وستبقى وحدكَ تُعاني الظَّلام”.
بنزقٍ ضغطتُّ بإصبعي على كبسة الكهرباء، وطرقتُ الباب خلفي بقوَّة، اعتقدتُ أنَّ الجدار سيهتزُّ والصُّورة ستقع أرضًا، لم يحدث هذا ولا ذاك، ببراءة ولد مطيع يسير على خطى والده، جلستُ قبالته صامتًا. فطنتُ: هل أغمضَ صاحب الصُّورة عينيْه لينام.. ويتركنا ننام بهدوء؟.
قيْلة ما بعد الغداء ضروريَّة لاستقرار الجسم، وتوازنه من أجل دوامي المسائيِّ في المكتب الاستشاري الهندسيِّ. رنينُ المُنبِّه لم يتوقَّف إلَّا بعد اِستجابتي، نهضتُ بهمَّة ونشاط. غسلتُ وجهي واِنْزلقت آثار الحلم عن وجهي مع الماء في فتحة المغسلة.