محمد علاء عبد المولى: الشاعر سلام حلوم يكتب تراجيديا السوريين بشعرية عالية

0

ذات يوم كتب الشاعر السوري شوقي بغدادي في مطلع قصيدة له في الثمانينيات: ((أنا لم أخترع الأسودَ، فالأسودُ أكلي وشرابي والقدحْ)). ليقول لنا إن الأسود ليس اختراعا صناعيا في حياته كسوريّ، وكشاعر، فهذا اللون هو معيشة كاملة يحياها الإنسان في ظروف عامة وخاصة لا يجد فيها مهربا من الخضوع لسلطة اللون الأسود.

بعد ثلاثين عاما تقريبا ينشر الشاعر السوري عبد السلام حلوم (المعروف بسلام حلوم) ديوانا يسميه (الأسود ليس لونا ـ صادر عن دار “موزاييك” في إسطنبول 2021). وإذا كان شوقي بغدادي لم يشر في قصيدته إلى سببٍ سوريّ محليّ لطغيان اللون الأسود، مع أن ذلك مفهوم في سياق تجربته ومواقفه، فإن سلام حلوم يفصح بصراحة في القصيدة التي تحمل العنوان نفسه (الأسود ليس لونا) عن أن هذا الأسود ليس مجرد لونٍ للزينة والأناقة، أو هو ليس وصفا خارجيا للأشياء والموجودات نطلقه عليها لتسميتها وتمييزها فقط، بل هو مرحلة كارثية كاملة يعيشها الإنسان السوريّ بعد أن تعرض لأبشع أنواع تزييف الألوان والحقائق والمشاعر.

الأسود يصبح في قصيدة سلام كائنا له وجود مشخّص، يمكنكم أن تلمسوه وتتعاملوا معه عبر صفات مادية، في صلابته في خشونته في حضوره الواقعي، إنه ليس مجرد وصف لتاريخ غير مرئيّ، بل ها هو بيننا في شخص أرملة تلبس ثياب الحداد للمرة الثالثة خلال أربع سنوات، ها هو يكبس علينا بشكل ملموس من أثر طلقة وانفجار ودخان حرائق.

تشكل هذه القصيدة مرتكزا فنيا ورؤيويا لقراءة الديوان كاملا، لأن الأسود سوف نلمسه في قصائد الديوان أينما توجهنا في عباراتها وأفكارها وصورها. ولأنه ليس لونا فلن نجده بصفته الجمالية البهيّة، بل بصفته معادلا وجوديا كارثيّا للتراجيديا السورية الحاضرة.

كون يعاني ضمورا في الحس الأخلاقي

يثبت سلام في قصائده هذه أن النص الشعريّ يمكنه أن يكون مخلصا تمام الإخلاص لشروط الكتابة الإبداعية بجدارة، وفي الوقت نفسه يمكنه أن يعكس وبإخلاص أيضا مأساة بشرية من خلال وقائع وتفاصيل وأشخاص يدخلون في القصيدة عبر نسيجها اللغويّ المؤثر بقدر ما هم هواجس في ذهن الشاعر، إنهم ليسوا مجرد تصورات مجازية، بل هم سوريون من سوء حظهم أنهم صنعوا تراجيديا كونيّة وكانوا أبطالا مكسورين متصدعين ولم يختاروا البطولة لأنهم أرادوا الحياة الطبيعية لا البطولية، لكن القدر جعل منهم سكانَ بالمات وشواطئ يصلون إليها قتلى أحلامهم بعد هروبهم من مذبحة شاملة، حملها الشاعر فيه ليس كشاعر بل كإنسان يعيش في كونٍ يعاني ضمورا في الحسّ الأخلاقيّ.

يضيف سلام حلوم في ديوانه هذا مزيدا من السمات الجمالية على مجمل تجربته الشعرية التي تمتد حتى عقود للوراء. ومنذ أن اختار في ديوانه الأول القديم (مديح شاسع للقشّ) أن يهتم بالتفاصيل الصغيرة والمنسية، فإنه هنا في تعامله مع حاضر سوريا الدمويّ المشتت يكمل أسلوبه في الوقوف عند جزيئات الحياة وهوامشها بما أن هذه الهوامش هي الحقيقة الواضحة للكائن. ومع أنه لا يستسلم للخطاب المباشر للموضوع، فلا نجد لديه إحالات واقعية بالاسم المباشر للحالة السورية، فهذا سوف يضعف البعد الكونيّ الوجوديّ للمأساة، مع ذلك ولأسباب تتعلق بشمولية التجربة واتساع الرؤيا، يلتقط الأحداث الصغيرة والكبيرة التي عاشها السوريون في الداخل والخارج ليجعل منها أحداثا مرفوعة إلى مستوى الحدث العالميّ شعريا ووجوديا. فخراب سوريا ما هو إلا تراجيديا كونية استطاع الشاعر تمثّلها شعريا بعد أن عاشها حقيقة وتجربةً.

بحثا عن فزع الطفولة

في قصيدة (الفزع) يقدم سلام مثالا مدهشا على صياغة أثرٍ من آثار الفجيعة السورية، مقارنا بين الفزع الذي كان يعيشه في طفولته وهو الفزع الطبيعي المتعلق بأشياء بسيطة لا معضلة معها، والفزعِ الذي صار يعانيه الآن في هذه المرحلة كسوريّ، بات يفزع من آلة القتل والقصف، بين فزع كان الأطفال يشعرون معه بتجربة ممتعة لأنه عبارة عن مشاعر خوف عادية تجاه شقاوتهم وشغبهم، وفزع يعانون منه الآن بعد انتشار مواد الرعب والحرب والمذابح.

الشاعر والسوريّ بات يطالب اليوم بأن يسترجع ذلك الفزع القديم، فهو لا يريد فزعا من آلة الموت وحشا وقاسيا وصلبا.

يقول (ص 105):

أعيدوا لي فزعي الذي من عمري

شفويّا له طراوة الحكايات

لا يستيقظ مع الناس

وينمحي ككلام الليل

لا يترك رجفة في ركبة أو جفلة من مكان

أنا لا أريد فزعا يفزّع

جافا قاسيا كوجه من الفولاذ

له جدار فينكسر

له حراس وكلاب مسعورة

له رسمٌ على الرض يقتفيه رعاة البارود بحوافر الحرب

الحكمة في واقع لا شعر فيه

يختار سلام أكثر مستويات اللغة هدوءا وتأملا وهو في صدد كتابة الكارثة البشرية. فخطابه الشعري قادر على الظهور بمظهر الصمت الكامل، ولكنه في اللحظة نفسها خطاب يخفي براكين من الغضب والألم. وهذه في الحقيقة لحظة مهمة من لحظات الوعي الفني للشعرية التي تتطلب ضبطا فنيا هائلا لذلك الطوفان من المشاعر العاصفة التي لو تركها الشاعر تختار لغتها كما هي لحوّل نصوصه إلى مجرد أخبار ووقائع لا جدوى فنية وشعرية منها. وهذه من أكثر الخصائص الجمالية التي صارت مطلوبة من الشعر ليحافظ على (حكمته) أمام واقع لا شعر فيه ولا حكمة.

أما السمة الأبرز في الخصائص الأسلوبية والبنائية في هذا الديوان، وفي كل ما يكتبه سلام منذ سنوات، أن قصيدته عبارة عن كتلة متماسكة صلبة المعمار، وأنه لا يمكن للقارئ إلا بصعوبة بالغة، اقتطاع جزء منها ليستشهد به على شيء ما. فأي مجتزأ من هذه القصيدة أو تلك سوف يبدو بلا معنى على الإطلاق، لأن كل العبارات والصياغات في القصيدة متعلق بعضها ببعض، مسبوكة سبكا متينا كما يقال قديما. وفي الحقيقة يصحّ تماما في قراءتنا لشعر سلام أن نستعمل مقولات مثل وحدة القصيدة، البنية الداخلية، الوحدة العضوية… إلخ فهذه المقولات باعتبارها مصطلحات نقدية يراها بعضٌ من المهووسين بالمبالغة في معنى الحداثة وما بعدها، وفي شهوة تفكيك النصوص وتشتيتها، يراها هؤلاء مصطلحات عفا عليها الزمن ولم تعد صالحة للاستعمال النقدي في حين أن الشعر في أي مكان وفي أي ثقافة حين يفقد هذه الصفات فإنما يفقد جدواه في الأساس ويتحول إلى شططٍ لغويّ لا طائل منه.

هذه السمات لم تعد واضحة مع الأسف لدى معظم الشعراء اليوم حتى في نماذجهم (الكبيرة). فحين تكون القصيدة متماسكة وذات عالم متكامل من البناء والمعنى والسياق والأسلوب، فإنها تدل على قدرة خاصة للشاعر في أن يبني قصيدته بناء، لا أن يقذفها في وجوهنا شظايا  كأنها جرّة مكسورة إلى فتافيت.

ينفرد سلام حلوم بامتياز وبجدارة عن كثير من تجارب الشعر الحاضر، في أنه يمتلك شخصية شعرية مستقلة، ومن أهم أسباب هذه الاستقلالية أنه يبني نصوصه بحرفيّة ومهارة وصحوٍ فني كامل. ولأن سلام يكتب قصيدة نثر، فسوف لا نجانب الصواب حين نعتبره من أبرز الأمثلة الراهنة في قصيدة النثر السورية التي تتمتع بهذه القدرة الدائمة على هندسة نصوصه وبنائها معماريا بحيث لا مكان للفجوات الفارغة في جسد النصّ.

من أين جاءت هذه السمة في شعره؟

علينا أن نلاحظ أنها ليست سمة وليدة المصادفة وليست وسيلة بلاغية مقحمة على النصّ، وليست تجريبا شاءه الشاعر من قبيل محاولات اكتشاف أساليب مختلفة للبناء النصيّ، فكل ما يشير إليه الموضوع يجعلنا ملزمين بالبحث عن أسباب أخرى لهذه السمة. التي سوف نجدها في خصوصية الموهبة الشعرية التي طورها سلام واشتغل عليها بهدوء وحذر، حتى بات يملك معها أسلوبا يميزه عن محيطه. وسوف نجد هذه السمة في طبيعة النصوص نفسها حين يختار سلام أن يكتب عن الأشياء بل يكتب (سيرة الأشياء)، والمسكوت عنه في هذه السيرة، وحتى تكتب سيرة الشيء ينبغي أن تتقمصه من داخله وتصبح أنت وهو كيانا واحدا، لهذا يتقمص سلام كينونة أشيائه التي يؤرخ سيرتها وتفاصيلها وينطق بلسانها. ولأن سيرة الشيء هنا ليست مادة لرواية ولا سيرة مذكرات، بل مادة للقصيدة، فإن سلام يراقب ذكريات الشيء الذي يكتبه من داخله، يتركه يسرد نفسه ولكنه سرد في بنية شعرية، تتمّ مراقبته بعين الشاعر ومشيئته وليس سرد تداعيات وتهويمات قد تجد ضالتها في كيان روائيّ أو نثريّ آخر.

سلام يلعب في اللحظة نفسها على تقمص روح الشيء وكينونته، وتقمص أدوات الشاعر بطبيعة الحال، بحيث لا يسمح لأي فكرة أو عبارة أو حتى مفردة، أن تتسرب إلى بنية النصّ إذا لم تكن هذه العبارة أو المفردة واردة في سياقها البنائي الدلالي الخاصّ. ويلاحظ القارئ الناقد أن ما يرويه سلام من سيرة الشيء إنما يأتي في حالة انسيابية من دون انقطاعات وحواجز، يترك الشيء على سجيته أو يتحدث عنه على سجيته المضبوطة فنيا. من هنا جاءت هذه البنية المتماسكة للنصّ الخالي من عشوائيات لغوية وزوائد بلاغية وتوزيع أسطر فوضويّ كما يجري في أغلب النصوص الحديثة.

وغالبا ما يختار سلام الأشياء الهامشية المهملة التي نمرّ بها من دون اكتراث، فهو كشاعر لا يغرق في ماورائيات كبرى بل يحدد مجال مشروعه الشعري كله في التفاصيل الدقيقة ويوميات منسيّة للحياة والكائن، خاصة أن ذلك حدث الآن على خلفية تفاصيل للكائن السوريّ هي بحد ذاتها تبدو قضايا كبرى ومعضلات وجودية وليست مجرد تفاصيل. وباستعراض عناوين قصائده يتأكد القارئ من ذلك، فهو يسمي نصوصه: (الضباب، البالم، قطان المسمار، المصور، السكين، الشباك، لقّاطات الغسيل… إلخ) في كل هذه النصوص سوف يفاجأ القارئ بما لا يتوقعه على الإطلاق من حديث هذه الأشياء عن نفسها أو حديث الشاعر عنها. بل إن سلام في هذه النصوص يمارس بذكاء منقطع النظير ما يسمى في النقد (كسر التوقع) بحيث يصعق المتلقي بما لا يتوقعه أبدا، لا من حيث الموضوع والتفاصيل ولا من حيث اللغة الشعرية.

المأساة “البشرية” المضمرة في “الأشياء”

يمكننا اختيار قصيدتي (البالم) و(لقّاطات الغسيل) كمثالين باهرين على هذه الفكرة. فالبالم يروي سيرته التي هي سيرة اللاجئين نفسها، لكن هذا البالم يسرد مأساته هو أيضا التي لا أحد يفكر فيها من ركابه الهاربين من مآسيهم بواسطة البالم نفسه، فيتساءل البالم لماذا يهملونه بعد أن يستعملوه كأداة نجاة؟ لماذا سرعان ما يتخلون عنه بمجرد وصولهم إلى البرّ؟ يتركونه وحيدا منسيّا وهو الذي حفظ أسرارهم خلال رحلتهم، هو الذي شهد توحشهم على بعضهم وعدم رحمتهم ببعضهم وهم على مقربة من الموت، هو الذي استوعب كل ذلك بصمت وصبر ولا يمكن له أن يفضحهم لأن دوره أن يكون بالم النجاة فقط، حتى إن أحدهم قد يقترب من البالم ويطعنه بسكين تخلصا منه! إن الشعر هنا لا يرصد مأساة السوريين على البالم فقط، بل مأساة مضمرة أخرى ما هي إلا صورة موازية للمأساة البشرية، إنه يؤنسن الأشياء في أصعب لحظات مشاعرها.

أما لقّاطات الغسيل فتروي هي الأخرى محنتها خلال الحرب، فهي المنسية التي لا أحد يحملها معه حين يهرب من بيته حاملا كل شيء سواها، فهي لا أهمية لها عندهم مع أنها حملت ثيابهم ومناديلهم وأسرارهم وحمتها من السقوط أو الموت في الشارع. بل وهي الوحيدة التي تعرف بقايا الجثث المرمية على الشرفات بعد هروب الناجين منها. وها هم الآن يتركونها للصدأ والنسيان.

نحن لقّاطات الغسيل

لم ينتشلنا أحد من ركام

والبعض كان يطوّح بنا بعيدا في الحريق

كأننا حجر العثرة في طريق النّبش

ولا يدري بأننا نحن

من يعرف

من نتف القماش، أصحابَ هذه الجثث

ونعرف بيتها، وعمرها، وابنة من هي؟

إن موضوعات مثل هذه تعدّ تحديا فنيا كبيرا للشعر، استطاع سلام إنجازه ببراعة حقا، محافظا كما قلنا على خصوصية القصيدة حاميا لها من الوقوع في مطب النثر العادي أو في مطبّ أن تتحول إلى نصّ سرديّ لا علاقة له بالقصيدة.

*تلفزيون سوريا