هذه رواية السوريين في ألمانيا، “السوريون الذين لا يملّون من الاختلاف والاقتتال كأعداء تاريخيين، ما الذي يجمعنا حقا؟ اللغة؟ التاريخ؟ الذاكرة؟”. وربما كان كل سوريّ منا يرى جزءا من حياته بتفاصيلها ومشاكلها. باختصار: لكل سوريّ في ألمانيا نصيبٌ من الرواية.
لكنها رواية السوريين الذين تصفهم على لسان إحدى الشخصيات بأنهم “شياطين على خيول مسرَجة بالنار”، لكن بعضهم شياطين مفرغة من طاقة الشرّ. أو هم الذين تحولوا إلى حيوان (هامستر) المحاصر في دولاب. الذين اقتُلعوا من بلادهم وخاضوا آلام الرحيل والحدود ومراكز اللجوء، وهي رواية مضادة لمن فعل بالسوريين ذلك. لهذا فهي منحازةٌ إلى، ومضادة لـ. أي أنها ليست رواية محايدة ولا توفيقية بل تسجل شهادة أدبية ورؤية أخلاقية منسجمة مع تكوين الروائية ومواقفها السياسية والثقافية أيضا، فهي تقف بشكل لا هوادة فيه مع حرية وحقوق الإنسان على الأصعدة كافة حتى تلك التي تجد أنها مثار خلاف حاد وانتقاد واسع لا سيما في أوساط ثقافتنا الشرقية الفحولية والثابتة.
بين دم يسيل بسبب عنف جنسيّ في علاقة مثلية، ودم يسيل من جسد معتقل وصراخه بسبب التعذيب والعنف الوحشي، ثمة جرأة فريدة في طرح مسارين من الأفعال في النصّ نفسه، مسارين يبدوان متناقضين تماما، لكن ما يجمع بينهما أن (سرمد) يبحث عن حريته والمكان الذي يستطيع تحقيق ذاته فيه دون خوف من مطاردة اجتماعية وأخلاقية، وكذلك خليل وغيره، المعتقل سياسيا، يبحث عن حريته وذاته. الاثنان لديهما ثقوب مدمّاة.
من خلال ذلك تريد الروائية التأكيد على أن الجسد يشكل هوية للكائن، وهذه الهوية مخترقة بالدم والألم، كيفما كان سبب الألم، منطلقة من رؤية أعمق حول مفهوم للحرية باعتبارها ليسا فقط خيارا شخصيا لا غنى عنه، بل هي خيار وجوديّ شامل.
الجسد شكل أطروحة كبرى في الرواية، بمعناه الإنساني وليس الجنسي فقط، الجسد مدمر بفعل الحرب والملاحقة والقصف والرعب، لذلك بات مدمرا على صعيد الجنس ولم تعد بعض الشخصيات قادرة على الفعل الجنسي. في دلالة على تلازم طاقة الحياة وطاقة الجنس معا في الجسد. خاصة كما رأينا معتقلين تم تدمير أجسادهم وتشويه طاقة اللذة لديهم. كما حدث مع عيسى مثلا وفشله في إكمال الاتصال الجنسي لأنهم في المعتقل علقوه من خصيتيه وعذبوه بوحشية.
في الرواية حديث عن (عالم قديم) يتلاشى، يمكن اتخاذ مفهوم التاريخ القديم هنا بمعناه السوريّ الراهن، حيث سقط تاريخ قديم مع آذار 2011 وسقط معه كل شيء. يمكن اعتبار هذا السقوط يشبه سقوط جدار برلين بالمعنى النفسي والذهني للمواطن السوري الذي بدأت أزماته تنفجر مع الانفجار الكبير. بما في ذلك أزمات الانتماء الجنسيّ لبعض شرائح من المجتمع لم تكن تتجرأ على البوح بانتمائها, وكأن القمع والاستبداد هنا لا ينال فقط الجانب السياسيّ والثقافي، بل والجانب الشخصيّ والعاطفيّ والحميم أيضا. هل من أجل ذلك تراقب السلطة حتى التعبيرات الجنسية في الأدب.
إن أحداث الرواية قد تفضي إلى التأكيد على أن السوريّ لم يكن عنده فرصة تاريخية ليشعر بذاته مع القدرة على التعبير عنها إلا بأن يحيا في الغربة، المنفى، المهجر. أي أنها حالة تراجيدية حقا ألاّ تتمكن شخصيات الرواية وهي شخصيات موجودة في الواقع، من الإحساس بحريتها إلا في المنافي! لكن هذا الوعي للحرية كان هو الآخر مأزوماً، ملاحقا بمشاكل جديدة من نوع التكيف مع الآخر الغريب ثقافةً وحياةً، وصراع بين ذاكرةٍ من دمٍ وواقع من الرفاهية لم يستطع اللاجئون التنعمّ بها.
يقترح شخص في الرواية اقتراحا طريفا كوميديا أنه لكي تنهي حربا أهلية يجب توزيع أكياس ماريوانا على الشعب ويعتبرها الحل السحريّ. والآن نسمع أن الحكومة الألمانية سوف تقونن التعاطي مع الماريوانا وجعلها شرعية.
عيسى في الرواية يتعاطى الماريوانا حتى لا يتحول إلى وحش كردة فعل على وحشية النظام. فهو لا يريد أن يكون وحشا لذلك (يسبح في قطن الغيمات).
موضوعات مثل الجنس والجنس الحرّ، الماريوانا، هل تحتاج لمجتمع متطور ومنفتح وليبرالي حتى تتغير مفاهيم البشر حولها؟ حيث يبدي أحد الأشخاص في الرواية قرفه وغضبه من هذه الحريات فما الفائدة من الدفاع عنها كحقوق إنسان وهناك في سوريا يحدث كل هذا الدمار والقتل وامتهان الكرامة الإنسانية؟
هذا يقودنا للحديث عن جدلية هنا وهناك، والصراع بين ما يعني كل منهما، وهنا وهناك ليسا مجرد مكانين مختلفين بل هما عالمان مختلفان، كان السوريّ يظن أن الانتقال إلى هناك سوف يحقق الأمان والسلام، ولكن حين وصل إلى هناك فوجئ بهنا يحاصره ويعكر عليه راحته وأدرك أن الأمر ليس كما يتصور سهلا. نتحدث هنا ليس فقط عن صعوبة الاندماج بثقافة أخرى، بل بثقل الذاكرة وأمراضها ورعبها على الواقع الذي انتقل إليه السوري.
“نحن ببساطة كائنات من ذاكرة يا حبيبتي، نعيش لنبني ذاكرة، ونحارب كي لا تمتصنا تلك الذاكرة نفسها كثقب أسود… علاقة جدلية معقدة”. ص 52
تقريبا كل شخصيات الرواية تعيد اكتشاف ذواتها وتتعرف على نفسها هنا في المكان الجديد الغريب. بل هم يعيدون اكتشاف الآخرين الذين كان من المفترض أن يتعرفوا عليهم في بلادهم.
وهي شخصيات تبدو قادمة للرواية وهي في حالتها الجديدة المتطورة عن (العالم القديم) دون أن نلحظ مرحلة انتقالية من عالم إلى عالم، بمعنى أن كثيرا من هذه الشخصيات نراها فجأة بشكلها الجديد وكأنه بمجرد كونها تعيش في ألمانيا فهذا يعني أننا مهيأون للتعامل مع سوريّ مختلف تماما.
من المشاهد القاسية جدا في الرواية الطفل ذو الحذاء الأسود الذي لا يخلع حذاءه أبدا. ففي سوريا وخلال القصف والبراميل الأسدية مشى الطفل حافيا فشعر بأنه يدوس على الدم وبقايا اللحم والجثث المحترقة، فتشكلت لديه ردة فعل معقدة ولم يعد يستطيع بعدها المشي حافيا أبدا. رغم ذلك لا نعدم من يسخر من هذا الطفل! لأنه ينام ويأكل ويذهب ويجلس ويعيش كل شيء وهو لا يخلع الحذاء. تقول الروائية (ضحايا تسخر من ضحايا) فالذين يسخرون من الطفل هم أيضا لديهم سرديات تراجيدية مؤلمة. فلماذا يسخرون من هذا الطفل؟
في الرواية لمسات أنثروبولوجية، كلام عن تقاليد أكثر من شعب وثقافة، أغاني شعوب، ملابسهم، مزاجهم، طعامهم، انتشارهم في الأحياء والشوارع والساحات. وربما كانت الرواية هي الأقدر من الأجناس الكتابية الأخرى على الاستفادة من (علم الإناسة) إذ قد يأتي دارس للرواية ويأخذ منها هذا الجانب الأنثروبولوجي فقط ليدرس كيف رسمت الكاتبة حياة الناس في حقيقتها.
المقارنات المستمرة بين مظاهر الحياة في ألمانيا والحياة في سوريا قبل وبعد الدمار. وهذه المقارنات تشمل التفاصيل الصغيرة والكبيرة معا. مثل مقارنة دمار هامبورغ بدمار معرة النعمان، وما فعلته نساء الأنقاض الألمانيات من إعمار المدينة بعد الحرب، حيث تظهر الأمنيات والرغبات أن يحدث ذلك في مدن سورية كذلك لتشارك المرأة في البناء والحياة.
كذلك مقارنة مشهد الألعاب النارية على ميناء هامبورغ بما يثيره من ذكريات النار الحقيقية والبراميل في سوريا.
ألا تشكل المقارنات شقاءً ملازما للسوريّ حيث قد يوقعه ذلك في فخ عدم التكيف مع الحياة الجديدة ومقتضياتها؟ إذ لا مجال للمقارنات أبدا بين واقعين من عالمين متباعدين تماما. إنه ألم الصدمات المتتالية حين تثبت هذه المقارنات أننا لم نكن نعيش في قلب الحياة الحقيقية على الإطلاق.
وهي مقارنات دائما ترجح كفتها لصالح الحياة في ألمانيا رغم أن بعض الشخصيات ترفض التحول إلى روبوتات تتحرك بمنتهى الدقة والروتين. ألا يتعارض مفهوم الثورة والحرية واحترام الحقوق مع ما تصرّ عليه بعض هذه الشخصيات (يحيى العلواني مثلا) من رفض الاندماج وعدم التحول إلى دجاجة في مفرخة كبيرة؟ بحجة أن ذلك يحوله كما يقول إلى إنسان آليّ؟ وما فائدة أن يخالف إشارات المرور متباهيا بذلك وهو يردد يلعن روحك يا حافظ؟ في حين راحت العجوز الألمانية توبخه وتبهدله لأنه كائن غير حضاري؟ هذه أيضا نقطة مهمة يعانيها معظم السوريين هنا في ألمانيا.
هناك قضايا كثيرة وخطيرة مطروحة في الرواية تشير إليها الكاتبة وكلها تدور حول مشاكل اللجوء والصورة النمطية المرسومة في الذهنية الألمانية عن اللاجئ، ومنها المعاناة النفسية للاّجئين التي قد تؤدي ببعضهم للانتحار يأسا وقهرا.
منها مشكلة الحرية وما معناها؟ فها نحن في ألمانيا أحرار من الاعتقال والقتل المباشر، لكننا مقيدون بكثير من المعتقلات الفكرية والأخلاقية في داخلنا أو في محيطنا العربي الموجود في بيئة اللجوء.
ومنها الموقف من الإسلام كيفما كان هذا الموقف، من الألمان أم من السوريين. وفي هذا السياق تأتي ظاهرة الإسلاموفوبيا.
في رواية (البحث عن الزمن المفقود) لمارسيل بروست تم ابتكار الاستسلام للتداعيات الحرة والاستغراق فيها بلا حدّ. سؤال فضوليّ ربما: طالما هناك تحديد يوم أول للمتاهة ويوم ثان وثالث، أي هناك مقاطع زمنيّة مختلفة، فهل كان ممكنا من باب الاحتمال تخصيص كل يوم من الأيام الثلاثة ليكون رحلة تداعيات وفوضى ذكريات ووقائع سورية؟ ألا يبعد هذا الشكل الفني قليلا -أيّ روايةٍ- عن التصوير الواقعي أو التوثيقيّ للحياة؟ وهل يسهم ذلك في جعل بنية الرواية ذات مستوى آخر من السرد إضافة للمستويات الجميلة فيها؟ ورغم أهمية الواقع وخطورته الذي تغرف منه روزا في روايتها؟
هناك أحداث كبيرة وخطيرة في الرواية يحتاج كل حدث إلى تغطية روائية وافية، لنقل هناك كتلٌ سردية متجاورة تحتاج كل كتلة منها إلى وقفة خاصة لتأخذ حقها من الحياة الروائية والتأثير. قد لا يطفئ المتلقي ظمأه من التفاصيل والوقائع التي تتبدل مساراتها فجأة وكل مرة يجد نفسه أمام كتلة جديدة عليه أن يركز معها ويشحذ أدوات التلقي من جديد. هذا ربما كان له تأثير سلبي على كيفية معالجة القضايا الحساسة للسوريين، فلا يكاد القارئ يعرف وجهة نظر مقنعة حول المثلية الجنسية مثلا، أو حول الإسلاموفوبيا، أو المخدرات… إلخ لأنها مشاكل متلاحقة لم تشبعها الكاتبة تحليلا من خلال نقاشها بين الشخصيات والأحداث الكافية لتغطي هذه القضايا.
وكأن الروائية تريد قول كل شيء يخصّ المنفى السوريّ وتريد الإحاطة بكل مشاكله وأزماته في عمل روائي واحد، ربما كان مجديا أن تعطي الأمور حقها وترحّل بعض الوقائع لعمل روائي آخر.
فمن القصص التي ظلمت في الرواية مثلا ولم تأخذ حقها من الإضاءة والمعالجة الفنية قصة سرمد المثلي، وقصة هديل مع ميلاد حبيبها الذي تتخيل أنه ما زال موجودا وتحدثه وتدافع عنه في المظاهرة في هامبورغ. بينهما هو ليس موجودا. الفكرتان مميزتان وفريدتان جديرتان كل واحد منهما برواية مستقلة.
لا تنسى الروائية أن تشير إلى بعض ملامح الواقع الأدبي السوري في ألمانيا وما يصاحبه من زيف ورياء، مثل ظاهرة (ربيع) الشاعر الذي تم تعويمه والاهتمام به فقط لأنه لاجئ، دون التساؤل عن قيمة أدبية وجمالية لإنتاجه، وهذه إشارة إلى ظاهرة الأدباء السطحيين الذين فتحت لهم القنوات ووسائل التواصل والترجمة للألمانية لأسباب عاطفية محضة ولا يمكن لهؤلاء أن يمثلوا الأدب الحقيقي في معظمهم لأنهم تسلقوا على قضية اللجوء والأسباب الإنسانية.
*تلفزيون سوريا