كثيرة هي الأعمال الأدبية التي اتخذت من موضوع الحياة في المنفى، المهجر، مادة لها. وقد نرى كمية هذه الأعمال تزداد في قلب جماعات وشعوب تعرضت لهجرة قسرية، أو تهجير، من دول تحكمها أنظمة مخابراتية كأنظمتنا الشرقية والعربية التي تحول الحياة إلى فيلم رعب لا ينتهي. لذلك سوف نرى كثرة المدونات السردية والشعرية التي ظهرت في العقد الأخير من السنوات حول مواضيع الهجرة واللجوء وما يخلقان من مشكلات وتحديات لدى اللاجئ.
ويتفنن كل أديب في صياغة حصته من هذه المدونة سردا أو شعرا أو غير ذلك. ومع الاعتراف بأن الكتابة شكل من أشكال تأكيد الذات المهاجرة المنفيّة، وهو شكل مشروع تماما، لكننا حين نتعامل مع الكتابة كتجارب إبداعية منجزة فيجدر بنا أن نتخفف كثيرا من العاطفة والتضامن وبقية المشاعر التشاركية مع صاحب النص. فقد يتخذ البعض أزمة الهجرة واللجوء ليكسب اعترافا أدبيا نقديا لشيء لا يمتلكه. إذ كما أن الكتابة عن موضوع نبيل وقضية عادلة لا يصنع أديبا حقيقيا بالضرورة؛ كذلك إن مشكلات اللجوء لا تصنع كاتبا مبدعا إذا كان يفتقد مقومات الإبداع أساساً.
مفهوم “الكلب” بين ذهنية اللاجئ وسلوك المّضيف
هذا ما يدعونا لقراءة رواية (جمهورية الكلب) للكاتب الشاعر إبراهيم اليوسف على أنها خطاب أدبيّ في قضايا شتّى من بينها أزمة العلاقة ومشكلة التواصل بين اللاجئين ومجتمع اللجوء الذي فرض عليهم وصار مطلوبا منهم إتقان بناء العلاقات معه للتعايش معه والتداخل مع تقاليده. يختار اليوسف لتركيب خطابه الأدبي الجمالي موضوع الكلاب ليقدم من خلاله تصوراته عن حياة اللاجئ ولا سيما إذا كان ذلك اللاجئ كرديا سوريا في ألمانيا.
موضوع الكلاب يمتلك تأثيرا وجاذبية نظرا لما له من خصوصية بالغة في ذهنية الإنسان المنتمي لجغرافيا العالم العربي (خاصة المسلم). فنحن نحمل نظرة مضطربة حول عالم الحيوان بصورة عامة خاصة تلك الحيوانات التي شكّل الدين معناها وتدخل في طريقة وعينا لها. وعلى الرغم من أن هناك (أخلاقا) معقولة في الدين حول الرفق بالحيوان، لكن ذلك الرفق سيكون سلوكا مترفا كماليا ليس له بيئة عمومية أو مجال عام للتعبير عنه. فنحن في مجتمع تراكمت فيه قضايا هدر حقوق الإنسان وديست أبسط أحلامه بأحذية البطش والعبودية، فتراجع مع هذه الحالة قانون أخلاق التعامل مع الحيوان وصار الاهتمام بالكلاب مؤشرا على تصرف غريب وبات من يربي كلبا في بيته ويرعاه ويطعمه ويهتم بصحته كائنا غريبا يلفت النظر والاستهجان. بل قد يضمر المواطن المسحوق المقموع نظرة ازدراء و(حقد طبقيّ) لمن يولي اهتماما بالكلب في حين أنه هو محروم من حقوقه. ومن هنا نفهم لماذا هاجم الشاعر أحمد فؤاد نجم السيدة أم كلثوم في قصيدته (كلب الستّ) معبرا عن موقف طبقيّ منسجم مع واقع حاله.
فكيف إذا شاهد هذا الإنسان المهمّش المرميّ خارج مساحة الكرامة والعدالة، كيف يهتم الألمان بالكلاب ويجعلون منها شريحة اجتماعية كاملة الحقوق وفي كل مجال؟ هذا ما اشتغلت عليه رواية جمهورية الكلب التي حكت لنا قصة إنسان شرقيّ حمل معه نظامه الثقافي والتربويّ ووجد نفسه أمام طبقة مرفهة منعمة من الكلاب. تحكي لنا الرواية كيف تزعزع هذا النظام القابع في أعماق الشخصية الرئيسية للرواية حين بدأت التعامل مع المجتمع الأوربي الجديد. لقد اكتشف هذا الإنسان وجهه الأكثر بؤسا وحرمانا ومذلّة حين رأى الكلب الأوروبي يحيا حياة أفضل وأجمل من حياة الإنسان نفسه في بلاده “العربية والإسلامية”.
ثمة حكاية يختلط فيها التخيل بالمرجعية الواقعية، يتداولها اللاجئون في ألمانيا، تقول الحكاية إن القاضي المسؤول عن مقابلة لجوء لأحد اللاجئين سأله كيف كنت تعيش في سوريا؟ فقال له: كنت عايش عيشة الكلاب. فرد القاضي مستغربا: ولماذا جئت إلى هنا إذاً؟ هذه الحكاية تفيد بأن اللاجئ لا يعرف أن عيشة الكلاب كما يفهمها القاضي تعني رفاهية واستقرارا وحقوقا كاملة. والقاضي لا يعرف أن اللاجئ يقصد أنه كان يعيش ذليلا مطاردا مهانا تأتيه الاعتداءات من كل صوب، ويمكن بتصرف أرعن من أحد أن تنتهي حياته برصاصة كما تنتهي حياة كلب متشرد. تحضر في هذه الحكاية كل الفوارق الحضارية بين مجتمعين من خلال الموقف من الكلب.
ما تدل عليه هذه الحكاية هو رسالة رواية (جمهورية الكلب) وفحواها. فمشهد المقارنة والغوص في الفوارق بين ثقافتين سوف يجده القارئ محورا أساسيا من المحاور التي تدور حولها عوالم الرواية.
إشكالية الاندماج
من أصعب الأفكار التي تقدمها الرواية أن الكلب في بلاد الراوي الأصلية غير قادر على (الاندماج) في محيطه. منبوذ مطارد مستهدف ملعون نجس مخرّب داشر. وهي صفات قد يطلقها بعض الأوربيين ذوي الفكر اليميني المتعصب للقومية على اللاجئين خاصة أولئك الذين يجدون صعوبة فائقة في (الاندماج) مع المجتمع الألماني. فكما يحس الكلب في الوطن بالانخلاع والاقتلاع، يحس اللاجئ في أوربا بالانخلاع والاقتلاع ذاته. بل يجد نفسه هنا أمام رفاهية الكلب وكأنه أقلّ مرتبة اجتماعية وحقوقية منه!
الرواية تظهر مختلف الجوانب والمشاعر والتصرفات حتى المتناقضة، التي يحملها ويقوم بها اللاجئ تجاه مجتمع الكلاب. ولا يجعل الروائي من الشخصية الرئيسية نموذجا للشرّ والجهل المطلق، فهي حين تتعرض لأفعالٍ ما تقوم بردة فعل تدل على الخير والمحبة الكامنة فيها، لكنها ردة فعل مقذوفة في لحظة صراع وتوتر لا يمكن الخلاص منها بسهولة. لا سيما أنه من بيئة كردية تعاملت مع الحيوان بطريقة معقولة نسبياً كونها مضطرة للاعتماد عليه في كثير من تفاصيل حياتها، رغم أن الصورة الجديدة لعالم الكلاب التي تواجهها شخصية الرواية صورة ليست معهودة وتراها فوق التخيل. فهي شخصية تعكس مثلاً واحدا حول نمطية سائدة في عالم اللجوء، وهي التمثّلات المسبقة التي يحملها اللاجئون عن مجتمع مغايرٍ مختلف متناقض مع مجتمع اللاجئ الأصلي (بلد المنشأ). وسوف يرى القارئ أمثلة لا حصر لها في الرواية تؤكد الصورة المتناقضة القابعة في أعماق التمثّلات الجاهزة. ولا يفيد سرد الأمثلة في مقالة صغيرة، فالرواية كلها مثال على تلك المسألة. ولأن الأمر متعلق في سببه الأساسي بالتمثّلات الجاهزة والتي تصيب صاحبها بالهزة والصدمة – لأنها وغالباً ليست بالضرورة مطابقة للواقع – فسوف يلجأ الكاتب إلى إجراء مقارنات كثيرة بين نمط حياته السابق ونمط حياته كما صار واجبا عليه أن يشكّله ويصنعه بحسب الظروف التي اكتشفها حديثا والتي شاهد أنها متضاربة مع تمثّّلاته الخاطئة. إلى حدّ أنه قد نرى مسارين واضحين لأحداث الرواية هما عبارة عن سيرة الراوي في بلاده، يقابله ويناقضه ويمزقه مسار سيرته في بلد اللجوء. هاتان السيرتان متداخلتان على طول خط الرواية بشكل تناقضي يصل حد الصراع الدرامي المعبر عن شقاء (بطل) الرواية ومعاناته في حياته معاناة تبلغ مستوى الألم الوجودي الكبير المؤسس على تفاصيل مؤلمة صغيرة متتالية.
صراع الهوية
لهذا يلمس القارئ هويتين متناقضتين– متناحرتين في عالم الرواية، الهوية الأولى (التي هي أصلاً غير مستقرة وليست ممتلكةً خاصة أن الراوي يبني الرواية على شخصية كرديّ مسلوب من حقوقه الأصلية في بلاده) والهوية الأخرى التي هي أيضا قلقة وغير سهلة التحقيق فهي عبارة عن أسئلة مستمرة يعصف برأس اللاجئ حول كيفية تقديم ذاته للآخر الأوروبيّ: كيف يقنعه بأنه كائن عاديّ رغم كل هذه الطبقات النافرة البادية في سلوكه وأدائه الاجتماعي؟ كيف يوصل الآخرَ إلى ساعة انكشافٍ أمام الذات المسلوبة التي تحمل كلّ جمال وكل طاقات ومكنات الحياة البشرية الطبيعية؟ ولكن ماذا يفعل وهو نما ونضج في بيئة تلغيه وتنسف له كل جسور التواصل مع الآخرين بل حتى مع نفسه؟ كيف يمكن لهذا اللاجئ المأزوم أن يمتلك هوية جديدة في مجتمع يقيم وزنا أخلاقيا هائلا للكلاب؛ وزنا ثقافيا بل حتى سياسياً؟
تصوّر لنا الرواية صعوبة التوازن لدى هذا الشخص بين هويتين ممزقتين وغير مكتملتي النموّ بصورة سليمة. فلا يمكن للاجئ أن يستوعب ويتفهم كيف أن الكلب الألمانيّ له جواز سفر إلى أرجاء العالم وله حماية قانونية واجتماعية وصحية، إن هذه التفاصيل تحول معاناة اللاجئ إلى تمزّق كونيّ وألمٍ وجوديّ.
بين إبراهيم اليوسف وأحمد الصافي النجفي
ومن طرائف المصادفات ذات الدلالة المهمة أن يعثر القارئ في كتاب للشاعر أحمد الصافي النجفي بعنوان (جدّ وهزل صدر في بغداد عام 1936) على موقف مشابه لما نحن بصدد قراءته في الرواية الحديثة. فالنجفي يقيم مقارنة بين الغرب والشرق حتى يصل للقول: “والأغرب من هذا كله أن كلابه اكتسحت كلابنا، ألا ترى كلابنا الشرقية كيف أضحى نصيبها المطاردة والتسميم من قبل إدارة الصحة لما علاها من أوساخ وأمراض بينما تجد الكلاب الغربية بما تناله من نظافة وتربية بعيدة عن الأمراض متربعة فوق الفراش والرياش وأما كلاب أبناء البلاد فهي محرومة من كل النعم التي تتمتع بها كلاب الإفرنج. ونضيف إلى ذلك أن القطط الغربية ذات الشعر الطويل اكتسحتْ أيضا قططنا الشرقية ذات الشعر القصير التي كاد جنسها ينعدم لما تلاقيه من شظف العيش” ص 44.
إن ما يقوله النجفي هنا يحمل معنى مبكرا ودلالة مهمة على الصراع بين نوعين من التمثلات التي يصنعها ويحملها الإنسان حول موضوع معين، وهي ذاتها التي بدأت المدونات الأدبية بعد عشرات السنوات من رحيل النجفي بالاهتمام بها بشكل أكثر نضجا فنيا وعمقا فكريا كما فعل اليوسف في روايته.
حكاية وذكريات خالية من الخطاب المؤدلج
وعلى أن الرواية تنبئ عن حمولة فكرية متسربة من بين مقاطعها، لكن الروائي بقي محافظاً على نظافة نصه من الرؤيا الأيديولوجية الضيقة التي كان من السهل عليه الوقوع فيها نظرا لحساسية الموضوع وما يحمله من ارتباطات سياسية وقومية مختلفة، واكتفى بأن هرّب أفكاره ومواقفه من خلال الحدث الروائي والحوار وتفاصيل المكان والمشهد والشخوص ولا سيما عالم الكلاب لكونها (المعادل الموضوعي) لما يريد تأسيسه كخطاب أدبيّ متجانس مع فن الرواية، مستثمراً كل الأساليب الممكنة من سردٍ وحكاية ومذكرات وذكريات وتوثيق، في سبيل بناء عالم روايته.
ثم إن ردود فعل اللاجئ وطبيعة تقييمه لرفاهية الكلب وأمجاده ليست موقفا أيديولوجيا في جذره بل هي نتيجة طبيعية لصراع أكبر وأكثر التصاقا بذاته ووعيه لهويته ومشاكلها. إن الإحساس بالاقتلاع الذي يعيشه شخص الرواية هو إحساس مزدوج، فهو أقلية في بلاده، أقليّة في بلد اللجوء! وهذه كما يظهر حتى للوهلة الأولى ليست سوى مسألة وجودية حقيقية، لذلك تخففت الرواية كثيرا كثيرا من المزاعم الأيديولوجية الممكنة وظلت محافظة على صدق السردية كما هي في واقعها الذي يقول أكثر مما تقول المزاعم المسبقة.
*تلفزيون سوريا