محمد صبحي: “هذا المطر لن يتوقف أبداً”.. فيلم نادر عن الحرب

0

بالنسبة لكثيرين، لم تبدأ الحرب في أوكرانيا قبل 3 أشهر فقط، فالقتال العنيف مستمر في منطقة دونباس منذ سنوات. يحذر المخرجون الأوكرانيون منذ فترة طويلة من تصاعد هذا الصراع، غير أن المقاربات والتناولات تختلف من سينمائي لآخر. الآن، يُعرض في مدن أوروبية فيلم وثائقي لافت يعاين جانباً من الحرب الحالية في زمن ما قبل وقوعها.

قبل سنة ونصف السنة، عندما شاهدت فيلم “هذا المطر لن يتوقف أبداً” للأوكرانية آلينا غورلوفا في مهرجان امستردام الدولي للسينما الوثائقية (إدفا)، بدا لي فيلمها مفرطاً في طموحه السينمائي وتجريبه البنائي، رغم الإعجاب بزاويته المختلفة لتناول مواضيعه. هذا لأن المخرجة، التي لم تهرب إلى الآن من كييف وبقيت هناك لتوثيق ما يحدث، لم تشرع ببساطة في تحليل سينمائي لتداعيات انفصال أجزاء من إقليم دونباس في العام 2014، وإنما اتخذت نهجاً مختلفاً تماماً من حيث الشكل والمحتوى.

البطل أندريه سليمان، ابن الـ20 عاماً، مولود في سوريا لأمّ أوكرانية وأب سوري كردي، ويضطر إلى الفرار مع عائلته من الحرب في سوريا إلى أقاربه في لوهانسك في إقليم دونباس في العام 2012، ليفاجأ هناك بعد ذلك بعامين بحرب جديدة تنشب بين الانفصاليين الموالين لروسيا والقوات الأوكرانية. تلتقط غورلوفا خيطاً ذكياً يشير إلى أن الحرب ليست شيئاً عفوياً وعشوائياً، لكنها جزء من حلقة/دورة من صنع الإنسان لا يستطيع أي جيل الهروب منها.

ولهذه الغاية، تتبع أندريه، المندمج تماماً في الحياة الأوكرانية، في حياته اليومية مع صديقته، في دورات تعلّمه اللغة الألمانية، لكن قبل كل شيء في عمله التطوعي كعامل في الصليب الأحمر، والذي يحدث بشكل أساسي في الأراضي المحتلة في دونباس، ويُظهر الحياة اليومية للمنطقة المنكوبة التي تتطلّب إمدادها بتوصيلات الطعام وتبرعات الملابس لتصمد. لكن، على عكس فيلم الدراما الأوكراني “كلونديك”، لمارينا غورباتش، المعروض في مهرجان برلين السينمائي هذا العام، والذي يستكشف التصدّعات المتزايدة لعائلة شكّلتها يوميات الحرب في المنطقة الممزقة؛ تتمسّك غورلوفا دائماً بوجهة نظر بطلها، فنحن لا نتعرَّف على العائلات الأوكرانية أو أي عائلات أخرى، بل نبقى مع عائلة أندريه الموزّعة على ثلاث قارات، ويحاول بعض أفرادها المقيمين في ألمانيا إقناعه في محادثات الفيديو بمغادرة شرق أوكرانيا بسبب الوضع البائس.

ومع ذلك، في الوقت نفسه، من خلال هذا المنظور الخارجي بالتحديد، تتضح مراحل الحرب والسلام، ونتعلَّم على أكثر المستويات اليومية ما تفعله الحرب في الناس، وكيف يتمكّن المتضرّرون دائماً من تعويض فقدانهم المنزل والمستقبل بحياة أسرية يومية وخططٍ مفاجئة تماماً للمستقبل. في مرحلة ما، نرى أندريه في حفلة زفاف في هامبورغ الألمانية ونرافقه بعد وفاة والده المفاجئة أثناء نقل جثته إلى شمال العراق، حيث يريد بالفعل السفر إلى سوريا للوصول إلى جذر مأساته الشخصيته ومنبعها. لكن مطراً لا ينتهي (ومن هنا أخذ الفيلم عنوانه) أفاض نهر الفرات وغمر الجسر الحدوي بين البلدين، وجعل الانتقال مستحيلاً. بمثل هذه المجازات يجسّد الفيلم صوراً لافتة لاستعصاء معضلة الإنسان المتمثلة في عدم القدرة على خلق سلام دائم، وبالتالي الاستمرار في فقدان ما شُيّد عبر أجيال وأجيال لاحقة.

هذا المنظور العابر للحدود، اندماج الصراع السوري بالشتات الكردي مع الصراع الروسي الأوكراني، عزّزته كاميرا فياتشيسلاف تسفيتكوف الهادئة والمتسامية الباحثة دائماً عن تفاصيل شعرية (الصور العريضة بالأبيض والأسود تعمل أيضاً على تحييد المعرّفات الملونة مثل الزي الرسمي للجنود والأعلام الوطنية أو أغطية الأسلحة، جنباً إلى جانب تصميم الصوت الدقيق لجوران غورا وسيرغي سينثكي، يخلقان أجواء تعتمد على التركيب البصري المكثف والمزاج الغنائي).. وبدا المنظور، كما أسلفنا، تجريبياً جداً قبل عام ونيف، ومفتعلاً بعض الشيء. لكن الغزو الروسي، الذي امتدّ في هذه الأثناء إلى صراعٍ دولي يشبه حرباً بالوكالة، أعطى الفيلم، الفائز بالعديد من الجوائز، شرعية رؤيوية سارية المفعول. بالنسبة للمشاهدين، تبدو عالمية فيلم غورلوفا المعروض على هذا النحو، أكثر قابلية للفهم الآن مما كان عليه قبل بضعة أشهر.

بصبرٍ وحصافة، لا بانفعال وغضب، لكن في صورٍ شعرية، ترسم غورلوفا حياة تطبعها الحرب، لا تخرج من حفرة الدمار إلا لتستقر في دوامة الفرار، ولا تنجو من مأزق التشرّد إلا لتقع فريسة الضياع الوجودي. ورغم هدوئه وكثافته المتأنيين، وتجنّبه عرض أي صور للقتال أو التعذيب، فمن المحتمل أن فاعليته وقدرته على التأثير يأتيان من هنا بالتحديد: من مجاورته لمتناقضات العيش في بيئات حرب لا تنتهي، اليأس إلى جانب الأمل في إدامة حياة عادية نادرة ومسروقة في خضم دورات العنف والصراعات الدموية.

*المدن