يثير حضور اللغة العربية في أوروبا، خاصة في غربها وشمالها، كثيراً من الجدل، المرتبط عادة بالتحذيرات المتكررة من «أسلمة الغرب»، والرد الليبرالي المعتاد، بأن الحضور العربي/الإسلامي، على مستوى الطقوس واللغة والثقافة، علامة إيجابية على تنوّع فعلي، في قارة اعتادت تاريخياً على إلغاء التعددية، لحساب الواحدية القومية والدينية. إلا أن هذا الجدل يبقى أوروبياً «داخلياً» إلى حد كبير، لا يشارك فيه أبناء اللغة، موضع الاتهام أو الدفاع، إلا بوصفهم مناصرين لطرف من الأطراف، الليبرالي غالباً، ومكررين لحججه، وكأنهم عاجزون عن ابتكار قولهم الخاص، في صراع يدور حولهم.
من مشاكل «غربية» ذلك الجدل ربطه بين اللغة العربية والأسلمة، ما يجعل العربية تبدو مجرد رطانة طقوسية، وليس لغة اتسعت عبر تاريخها لإسهامات ثقافية متنوّعة الاتجاهات والأصوات، تكلّمها وكتب بها بشر متعددو الديانات والرؤى. كما أنه يُغفل الاختلاف والصراع الداخلي بين متكلمي العربية، الذين حتى لو كانوا مسلمين محافظين، حسب الصورة النمطية عنهم، فإنهم يمتلكون بالتأكيد تصورات سياسية واجتماعية شديدة التعارض.
يشترك كل من اليمين واليسار الغربي بهذا الفهم التسطيحي للعربية، الذي يؤكده أحياناً بعض العرب الساعين لنيل «الاعتراف» و«التسامح». ما يجعل الجدل الغربي لا ينتج أكثر من كائنات إسلامية؛ عربية؛ شرق أوسطية، ممسوخة. والخلاف فقط هو هل يجب التسامح مع هذه الكائنات و«إعطاؤها فرصة»، أم الحد من وجودها في القارة.
لا يمكن تفسير هذا بالجهل بخصوص العرب فقط، فكثير من المتخصصين بالدراسات العربية، يبدون متمسكين بالفهم المعجمي الجامد للعربية: ليست هذه لغة حياة، تحوي كثيراً من التناقضات الداخلية، ويمكن أن تنتج مفاهيم وقيماً مختلفة عما هو متوقع ومألوف منها، بل لغة «تقليد» وتراث وكتب عتيقة. وفي أفضل الأحوال لغة بعض الأسماء الشهيرة، التي كان لها حظ الوصول إلى «الغرب»، مثل محمود درويش ونجيب محفوظ، بل حتى حسن البنا. يمكن تسمية ذلك الفهم للعربية بمنظور «الأرابيستك» Arabistik (الاسم الأكثر تداولاً للدراسات العربية في الفضاء الثقافي الألماني) تماماً كما اعتُبر الفن الإسلامي لقرون مجرد «أرابيسك».
إلا أن متكلمي العربية في القارة الأوروبية، على اختلاف توجهاتهم وثقافاتهم، بل حتى قومياتهم وعقائدهم، باتوا كُثراً، وأكبر من يكونوا مجرد أرابيسك أو أرابيستك، وبالتالي فنجاحهم في تحقيق خرق أو قطيعة في الجدل الأوروبي، الذي يدور عنهم، أمر شديد الاحتمال، فضلاً عن كونه بالغ الضرورة. فهل يمكن لـ«العرب» فعلاً أن يتكلموا، ليس فقط عن أنفسهم، بل أيضاً عن قارتهم الجديدة؟ وما نمط القول، أو الأقوال، التي يمكن أن تصدر عن الفضاء العربي في أوروبا؟
العربية لغةً سياسية
ليست العربية بالتأكيد غريبة عن أوروبا وتاريخها، فهي في النهاية لغة الأندلس والإمارات الإسلامية في جنوب إيطاليا، ولعبت إلى جانب اللاتينية والعبرية، دوراً كبيراً في ثقافة القارة، قبيل وأثناء عصر النهضة. وهو دور يقدّره ويركز عليه عادة باحثو «الأرابيستك». إلا أنه لا توجد صلة ميكانيكية ولازمة بين عربية ما قبل نهاية حروب الاسترداد الأوروبية (1492) والعربية المعاصرة. وبالتأكيد لا يعرف ناطقو العربية الحاليون، إلا المتخصصون بالتاريخ منهم، شيئاً عن آداب الأمويين والمرابطين والأغالبة والفاطميين جنوبي أوروبا. تأصيل العربية في تلك الحقبة وحدها يحوّلها إلى لغة تراثات بائدة.
عربية أوروبا الحالية موجودة ومتأصّلة منذ عقود في مظاهر أكثر معاصَرة، فهي لغة حياة يومية، وبيع وشراء، وتواصل مجتمعي وعائلي بين ضفتي المتوسط. وهي أيضاً لغة وسيطة بين الثقافات في الدول العربية، والأنظمة الاجتماعية والثقافية والسياسية في أوروبا، إذ يفهم متكلمو العربية شرطهم الحياتي الجديد غالباً، بعد أن يترجموه في أذهانهم وأحاديثهم من اللغات الأوروبية إلى العربية، ما يعطي لعربية المغتربات دلالات مستجدّة، تميّزها عن العربية الدارجة في الأوطان. وفوق هذا وذاك فهي لغة تجربة سياسية وثقافية شديدة العمق، فقد حملها معهم من عاشوا تجارب الثورات وانهيار الدول، وعبور البحار والبلدان لتحقيق الحلم بحياة أفضل. يختلف هذا كثيراً عن التغنّي بالعربية، بوصفها لغة المعتمد بن عباد وابن زيدون؛ ونزع طاقتها السياسية، لتصبح مجرد آداب وأناشيد وزخارف، مُنبتّة عن أي سياق معاصر.
نزع سياسية العربية قد يكون فعلاً أيديولوجياً بالدرجة الأولى، فعندما يتحوّل «العرب» إلى مجال لـ«التفهّم»، يبقون في محل المفعول به، وليس الفاعل، الذي يمتلك قوة ما، يمكن أن تصبح رقماً في المعادلة السياسية القائمة. لا يعني هذا أن متكلمي العربية يهددون بالتحوّل إلى قوة سياسية، تبني خطابها على أساس هوياتي أو طائفي، فهم أكثر تشتتاً من ذلك، ولا يبدون ميلاً إليه عموماً، ولكن المداخلات المتعددة، وربما المتضاربة، التي يمكن أن يقدموها، ستغيّر كثيراً في الجدل الأوروبي القائم، بل حتى فهم الذات الأوروبية نفسها.
من جانب آخر يمكن القول إن نزع التسييس بات ظاهرة عامة في أوروبا، والدول الغربية عموماً، وليس فعلاً، له دوافع عنصرية، تجاه متكلمي العربية وحدهم. إذ يتم إقصاء الذاتية السياسية، الميّالة دائماً لإنتاج تشكيلات جماعية، لحساب نمط من الفردانية، العاجزة عن الفعل السياسي. فيما يلعب المديرون والخبراء، أي المركّب البيروقراطي/التكنوقراطي، الدور الأساسي في إنتاج السياسات والقيم. بهذا المعنى فإن التعامل مع متكلمي العربية مناط ببيروقراطيي مكاتب الرعاية الاجتماعية والاندماج؛ وتكنوقراطيي «الأرابيستك» والدراسات الإسلامية والشرق أوسطية.
سياسات التمويل والمنح الثقافية الحالية في أوروبا قد تكون مثالاً ممتازاً عن نزع سياسيّة العربية، فالمنح لا تُعطى غالباً إلا لمن يقدمون أنفسهم بوصفهم ضحايا؛ طلّاباً للتفهّم والاعتراف؛ أو ناشطين في مجال «التبادل الثقافي»، وليس أصحاب طرح مستقل. يكتب كثيرون من ناطقي العربية نصوصهم اليوم، بوصفها مسودات للترجمة، أي أعمالاً غايتها الوحيدة أن تُنقل للغات الأوروبية، وجمهورها المستهدف هم السادة القادرون على التعاطف.
مندمجون ومهمّشون
يترك هذا الوضع متكلمي العربية أمام خيارات صعبة، فإما أن يلعبوا الدور المرسوم لهم، و»يندمجوا» في نظام ومؤسسات، لا تفرد لهم مساحة أوسع من دور التابع. سواء كان ضحية تحتاج الاعتراف، أو معاوناً ومساعداً عليه أن يلتزم بتعليمات مدربيه ومشغليه، دون أن يحظى يوماً بمكانتهم نفسها، لأن الأدوار كلها مقسّمة سلفاً؛ أو لا يبقى أمامهم سوى التمرّد على كل هذا بأسلوب فوضوي أو عنيف، فيلعبون دور المهمّش، ذي الأوجه الكثيرة: العاطل عن العمل؛ رجل العصابات؛ أو حتى المتطرف الديني. وهو دور يمكن اعتباره أيضاً ميداناً للتدريب على «التسامح». فلن يعدم «المهمّش» من يدافع عنه بوصفه ضحية أيضاً. وستُستعمل كثير من النظريات، من ما بعد الاستعمار، وصولاً إلى التعددية الثقافية، لتبرير حاله وسلوكياته.
لم يكن هذا دائماً وضع متكلمي العربية في أوروبا. في ما مضى كان العمال القادمون من شمال افريقيا والمغرب الكبير، جانباً من حراك سياسي مهم، غيّر القارة وفهمها لذاتها فعلياً. أسسوا أحزاباً ساهمت بدور محوري في استقلال بلدانهم (حزب «نجم شمال افريقيا» مثلاً)، وانخرطوا في الأحزاب الأوروبية المحلية، بوصفهم جانباً من طبقة عاملة عابرة للثقافات.. باختصار كانوا ذاتاً سياسية، تقبل التضامن السياسي، ولكنها لا تطلب تعاطفاً مفردناً، لا تريد من يبرر لها أوضاعها الحالية، ويعتبرها خاصية ثقافية تحتاج تسامحاً، بل تريد تغيير ظروفها نحو شرط حياتي وثقافي أفضل وأكثر تقدماً، إلا أن العربية آنذاك كانت أضعف من أن تغدو لغة أوروبية، فالعمال الشمال افريقيون استعملوا الفرنسية غالباً في تنظيماتهم وخطابهم السياسي.
لغة أوروبية
توجد عوامل متعددة، قد تقي العربية الأوروبية من أن تظل لغة «أرابيستك»، أي لغة مجهولة وطقوسية لتابعين. منها أن آليات «الاندماج» ستتغيّر غالباً، مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها القارة؛ كما أن المؤسسات الثقافية القائمة، حتى لو استمرت على المنوال نفسه، لن تتمكن من استيعاب كل حيوية متكلمي العربية الكُثر. سيظهر بالتأكيد من يقولون قولاً مختلفاً، على أطراف التيار الرئيسي، وهؤلاء سيبتكرون منظورات مفاجئة، لا يمكن استيعابها في ثنائية مندمج/مهمّش. وعندها قد ينشط نمط جديد من الترجمة إلى اللغات الأوروبية. ليس ترجمة الأعمال، الرديئة غالباً، الموجّهة لجمهور أوروبي «متفهّم»، بل ترجمة، قد تكون اضطرارية، للتركيبات الثقافية والسياسية المعقدة، الصادرة عن متكلمي العربية الأوروبيين. تلك الحيوية، وما تستلزمه من ترجمة، قد تجعل العربية من لغات أوروبا المعاصرة، ولن يعني ذلك غالباً «الأسلمة»، بل إن منظور الذات، سواء الأوروبية، أو العربية المهاجرة، سيتغيّر. وهذا أمر أكثر من متوقع مع كل هزه تاريخية كبيرة، فالثقافات تتغيّر وتعيد تركيب ذاتها دائماً، مهما ادعت أن سماتها الحالية ضاربة في العراقة والقدم.
(القدس العربي)