لم يجسد أحد مسرح التعري الأسدي وطقوس الموت اليومية التي يعانيها المعتقل، اللهم فيما عدا تقارير منظمة العفو الدولية التي وصفت بالتفاصيل طرق التعذيب النازية التي مارسها النظام وبشهادات معتقلين، بينما يحمل مسرح التعري رسالة في الغرب ويبدو أنه وليد مسرح القسوة لأنطونين آرتو.
عبّر مسرح التعري عن الاحتجاج واستبدال الكلام المنطوق بتعابير الجسد العاري، ليبدو وكأنه نوع من الطقوس الغير ملوثة بأفكار الأخلاق والثقافة، بل هي مجردة خارجة عن الواقع وغير مألوفة وصادمة للجمهور، وهناك من استعمل مسرح التعري للتعبير عن الأساطير القديمة، والانسان الأول الفطري، عبر الايماءات والرقص والارتجال، هذه الحميمية العارية تماماً ليست مجرد عرض جنسي بل هي ثورة تجسد المزيد من الأفكار والمواقف الذهنية، ربما سيكون لها تأثير الصدمة والازعاج ونوع من الهجوم لكنه مسرح مليء بالحركة واستخدام العواطف بحرية، لاستكشاف عوالم الحقائق العارية، المشاعر العارية، الضوء العاري والخشبة العارية وحتى الصوت العاري. فهو ليس لإثارة الغرائز بقدر ما هو نوع من التطهير ودعوة للتجرد والتفكير الموضوعي النقي والمطلق.
في بلادنا كان المثل العامي الشهير “اللي استحوا ماتوا” في إشارة لقصة حمام السوق الذي احترق وداخله نساء فخشين لخجلهن من خروجهن عاريات وانكشافهن للغرباء، وقررن السُّترة وفضلن الموت على الظهور للعلن. ربما هذه الحكاية عبرت عن تراث التعري في ثقافتنا، ولكننا اليوم سنجد أن سجن صيدنايا وقبله محارق النازية هي أكبر مسارح التعري التي مرت على التاريخ، فهذه المحارق عبرت عن قمة سقوط البشر وانحطاط الانسانية التي سمحت بتكرار ذات الآلام والمسالخ والزبانية، وقد حدثت قبلها في سجن أبو غريب، وكأننا نحضر فيلماً من أفلام الهالوين وعيد الرعب بل وحتى أفلام الزومبي، وهذه المشاهد الغروتسكية العبثية التي تعني سؤالاً واحداً ما قيمة حياة البشر بعد اليوم؟
هذا المسرح في التعري نعيشه كل يوم وقد تجرد الناس من قيمهم وأخلاقهم ولم يبق لهم ما يغطون فيه أنفسهم، أمام مشاهد أطفال سورية ومسنيها ونسائها وخيرة شبابها. الغريب أن البشرية لازالت ترتدي ما يسترها وتتغنى بآخر صيحات الأزياء، وقد تعرت فعلياً من كل شيء، وتزنرت بقيم وأخلاق وثقافات وتغنت بقوميات وحضارات.
من أشهر صور التعري في التاريخ الطفلة الفيتنامية التي أصابتها قنبلة نابالم قريبة وهرعت عارية مجردة من كل شيء، والطفلة السورية بعد مجزرة الكيماوي وهي نصف عارية تحتاج الهواء مجرد الهواء لتتمكن من النجاة من غاز السارين في الغوطة.
التعري لم يكن يوماً لغة السلطة بقدر ما هو لغة الضحايا ولغة الحرية واللغة التي تفضح الدجل والنفاق والشعارات الفارغة، التعري وحده من يكشف الجميع على حقيقتهم دون زيف أو خداع.
ربما يفضل مسرح التعري الهمهمات لينقل مآسي المعتقلين والنساء المعذبات تحت سلطة ذكورية بشعة، وربما صاخباً لينقل أصوات ثورة وربيع مطلق لدرجة أنه يصمُّ الآذان كأصوات المدافع التي لا تستكين حقداً على الآثام بنظر السلطة، لكن هذا التعري هو الطهر بحد ذاته. ربما سيحمل سيزيف صخرته عارياً كل يوم كما حمل المسيح صليبه في المجلجلة. ومشهد مسرح التعري السوري اليوم وصلب شعبه دخل عقده الأول ولكن ليس ليخفف ذنوب الأرض هذه المرة وإنما سيزيدها شقاءاً إن لم يتم انزال المسيح السوري عن صليبه. ليشفى من آلامه ويقوم من جديد في صنع مستقبل زاهر.
*خاص بالموقع