“وعندما تتحوّل الأرض إلى سجن عفن
ويغدو الأمل وطواطاً يضرب الجدران بجناحيه
ورأسه بالسقوف المتداعية
وعندما يرسل المطر خيوطه الهائلة
مقلداً بها قضبان سجنٍ واسع
وينسج شعب أخرس من العناكب الدنيئة
شباكه في تلافيف أدمغتنا
تفاجئنا دقات أجراسٍ غاضبة
وتطلق نحو السماء عويلاً مخيفاً
عويل النفوس الهائمة بلا وطن”
بهذه الكلمات الشعرية البديعة والمهولة أقتبس لشاعر أزاهير الشر “شارل بودلير” في قصيدته العظيمة كآبة 4 وهو الشاعر الذي حوكم على عدد من قصائد ديوانه الشهير وتم تغريمه لكنه لم يُسجن. لكنه مزج السجن بالحياة ذاتها، وبالمقابل كان هناك شعراء قد سجنوا وأبدعوا الكتابة خلال فترات سجنهم وسأعرض هنا أشهر ستة شعراء فرنسيين سُجنوا وعبروا بأجمل ما في أرواحهم من حبًّ للحرية والحياة.
جان جينيه المحكوم بالإعدام :
كانت حياة جان جينيه مثيرة للجدل في عصره، فقد صدرت بحقه الكثير من الأحكام وتم سجنه عدة مرات لكن أجمل ما قدمه عن السجن وهو المعروف بمثليته قصيدة “المحكوم بالإعدام” والتي التقطها جان كوكتو وقام بنشرها على أوسع نطاق حتى صدر العفو عنه عام 1944، وهنا أعرض قصيدته الخالدة من ترجمة حسونة المصباحي لموقع إيلاف إذ يقول جينيه :
على عنقي من دون وقاء ومن دون كراهيّة
والذي تلامسه تحت ياقتي يدي الأكثر خفّة ورصانة من أرملة
من دون أن يضطرب قلبي
دعْ أسنانك تضع آبتسامة الذئب
آ تعال يا شمسي الجميلةـ، آ تعال يا ليلي الإسبانيّ،
أئت الى عينيّ اللتين ستكونان ميّتتين غداً.
آئت،آفتحْ بابي، أحضرْ لي يدك،
خذني بعيدا من هنا لنضرب في ريفنا.
السماء يمكن أن تستيقظ، والنجوم تزهر،
ولا الازهار تتنهّد، ولامن مروج العشب الأسود
يُقْطَفُ النّدى حيث الصباح يذهب ليشرب،
الجرس يمكن أن يرنّ : أما انا فسأموت.
آ تعال يا سمائي التي من ورد، آ يا سلّتي الشقراء!
زرْ في ليله محكومك بالإعدام.
مزّق اللحم، اقتلْ، اصعدْ، عضّ
لكن تعال! ضع وجنتك على رأسي المستدير.
نحن لم ننته من الحديث عن الحب.
نحن لم ننته من تدخين”الجيتان“
ويمكننا أن نتسائل لماذا تحكم المحاكم
على قاتل في غاية الحسن والجمال حتى ان النهار يشحب أمامه.
أيها الحب تعال لتحطّ على شفتيّ
اجتزْ المعابر، انزلْ، سرْ خفيفا
طرْ في المدارج بأكثر مرونة من راع
ومسنودا من الهواء أكثر من الأوراق الميّتة.
آ اخترق الجدران، وإذا ما توجب ذلك سرْ على حافّة
السقوف، والمحيطات، تدثرْ بالنور،
استخدمْ التهديد، استخدمْ الصلاة،
لكن تعال يا فرقاطتي، ساعة قبل موتي(…)
أغفرّ لي يا ربي لأنني أذنبتُ!
دموع صوتي، حمّاي، عذابي،
وجع أن أطير بعيدا عن ارض فرنسا الجميلة،
أليس هذا كافيا يا الهي لكي أذهب الى النوم
مُتعثرا في أملي.
بين أحضانك المعطّرة، في قصورك التي من ثلج!
يا اله الأماكن المظلمة، لا زلت أعرف كيف أصلّي.
أنا الذي يا أبت، ذات يوم صرخت:
المجد للذي في أعلى السماوات لله الذي يحميني
هرمس ذي القدم الناعمة!
من الموت أطلب السلام، ونوما طويلا،
نشيد الملائكة، وعطورها، وزخارفها
ملائكة الصوف الصغيرة في دثارها الساخن،
وأتمنّى ليال من دون قمر ولا شموس
على براح ساكنة.
فيرلان وديوانه “من الزنزانة” :
تعرض الشاعر الفرنسي فيرلان للسجن لعامين في بروكسل بين عامي 1873 و1875 إثر إطلاقه النار على عشيقه الشاعر الفرنسي آرثر رامبو وفي الحقيقة لم يقصد إطلاق النار عليه وإنما كان يحاول الانتحار فأصاب كتف رامبو اليسرى وتم سجنه بتهمة الشذوذ الجنسي فخسر زوجته ماتيلد وعبر في سجنه عن شوقه للحرية وشعوره بالعزلة ليقول :
السماء من فوق السقف
شديدة الزرقة، كثيرة الهدوء..
ومن فوق السقف شجرة
تهدهد سعفتها..
الجرس في السماء التي نرى
يرن بهدوء
وعصفور على الشجرة التي نرى..
يغني ألمه..
إلهي.. إلهي الحياة هنا
بسيطة هادئة..
تلك الضوضاء الوديعة..
تأتي من المدينة..
شارل دورليان وربع قرن في الأسر
قضى تشارلز دورليان (1394-1465) خمسة وعشرين عاماً في الأسر في إنجلترا بعد أن تم أسره في معركة أجينكور (1415) ربما يفسر هذا السجن الطويل حلم الهروب والحرية الذي تم التعبير عنه في الروندو التالي، الذي كتبه بعد عودته إلى فرنسا عام 1440.
عندما أبدأ في الطيران
سوف أشعر بالأجنحة،
ستكون مريحة جداً
أخشى أن أحلّقَ بعيداً.
سيكون من اللطيف الصراخ، للإغراء الذي
سيتبع طريق الرياح اللطيفة،
عندما أبدأ في الطيران
سوف أشعر بالأجنحة،
ستكون مريحة جداً
أخشى أن أحلّقَ بعيداً.
القفص الذي كان علي الاحتفاظ به
لوقت طويل، سينتهي
منذ الطقس المعتدل والصافي سيشهد.
يجب أن يغفر لي.
عندما أبدأ في الطيران
سوف أشعر بالأجنحة،
ستكون مريحة جداً
أخشى أن أحلّقَ بعيداً.
فرانسوا فيّون الساخر من حفرته وعالم المثاليين والملذات
إن حياة فرانسوا فيلون (1431-1463) غامضة للغاية : فقد تبناه عالم لاهوت مشهور، درس اليتيم الشاب الفنون قبل أن يصبح لصاً ومتشرداً وحتى قاتلاً. سجن عدة مرات، وحُكم عليه بالإعدام، والعفو، ثم النفي، وكتب عملاً شعرياً مستوحى من حياته، Le Lais (1456) و Le Testament (1461) ، حيث يمزج بين التعبير الغنائي والأوصاف الفظة للواقع.
يقول فيون في قصيدة ” رسالة إلى أصدقائي” ساخراً من حياته المؤسفة في السجن مناشداً إياهم ألا يتركوه وحيداً معزولاً وقد أصبح بعيداً عن حياة الترف والنعيم وبذات الوقت ساخراً من رجال البلاط والنبلاء وحياتهم الخادعة :
الرحمة، الرحمة، على الأقل، أناشدكم يا أصدقائي! أنام في حفرة، لا تحت المقدس أو العتبة، في هذا المنفى الذي نُقلت إليه بسبب حكم فورتون وبإرادة من الله. الفتيات اللواتي يعشقن الشباب المحطمين والراقصين والضحكات والقفز والحيوية مثل رمي السهام، ماكرة مثل المناديل والحناجر تنضح برنينها بوضوح كالأجراس، هل ستتركوه هناك أيها المسكين فيون؟
المغنون يغنون من أجل المتعة، بدون قواعد، المحتفلون، الضاحكون، النكاتون في الحقائق والكلمات، الذين يركضون ويذهبون، بدون ذهب مزيف أو حقيقي، أناس روحانيون، تافهون قليلاً، تتوقعون الكثير، لأنه يموت في هذه الأثناء. صانعي lais ، motets و rondos(أنماط شعرية من العصور الوسطى)، عندما يموت، ستصنعون له مرقاً ساخناً! وحيث ينام لا يوجد وميض ولا زوبعة : صُنعت له جدران سميكة. هل ستتركوه هناك أيها المسكين فيون؟
تعالوا وانظروا إليه في هذه الحالة المؤسفة، أيها الرجال النبلاء، معفى من الربع والعُشر، لا يعتمدون على الإمبراطور ولا على الملك، بل على إله الجنة فقط. ويلزمه أن يصوم أيام الأحد والثلاثاء. أسنانها أطول من المجارف. على الخبز الجاف وليس على الكعك، يصب الماء في أحشائه في غليان كبير، يفترش الأرض، بدون مائدة أو حمالات. هل ستتركوه هناك أيها المسكين فيون؟
الأمراء المعينون، كباراً وصغار، يكيلون علي بالنعم والأختام الملكية ويرفعونني إلى بعض رجال البلاط. هكذا تصنع الخنازير لبعضها البعض، حين يبكي المرء، يأتون بأعداد كبيرة. هل ستتركوه هناك أيها المسكين فيون؟
تيوفيل دي فياو الذي حُكم عليه بالحرق ونجا من حكمه :
تم سجن تيوفيل دي فياو (1590-1626) لمدة عامين وحُكم عليه عام 1623 بالحرق الذي هرب منه أخيراً، متهماً بتأليف قصائد فاحشة. نُشرت أعماله من عام 1621 إلى عام 1626، وتتضمن مسرحيات وسوناتات وقصائد شخصية.
وهنا يكتب من سجنه قصيدة لأخيه لينقلها للملك :
ومع ذلك أنا حزين،
شجاعتي تسمح للعض،
وساعة بساعة فضائلي
اترك كل حواسي في حالة من الفوضى.
السبب بخطابه
بدلا من مساعدتي
هو محرج أمام ضعفي،
وموجات الألم،
حتى عندما لا يؤلمني شيء،
غيّرني والصوت واللون.
أعي سوداويتي بفزع طويل
فقط يُحب ما يحزنه،
واليأس الوحيد بداخلي
لا يمكن العثور على أي شيء يقاومه.
في الليل ينقطع نومي،
سحبت من الدم الفاسد،
يضع الكثير من المخاوف في روحي
أنني لا أجرؤ على تحريك ذراعي
خوفا من العثور على اللهب
والثعابين بين ملاءاتي.
في الصباح أول شيء لي
إنه غضبٌ لا يشبع
والمشروع الطويل والقاسي
يهاجموني أبناء الشيطان،
وربما تلك العفاريت المظلمة
ان كراهية مصيري
وجدت سريعاً لتؤذيني،
مهزوماً من أعتى الشياطين،
تفقد الرحمة لتحطيمي
وتفجير عاصفتهم في مكان آخر.
ربما، مثل اللصوص
يتعبون أحياناً من الجرائم،
وزراء مآسي
تعبت من فك القوافي،
بعض بقايا البشرية،
رؤية الظلم المتفلت من العقاب
بينما نطفو على تهمة مزيفة
ربما يضربهم في الصميم
ويعارضون جريمتهم
في مثل هذا التصميم البربري.
شينييه الشاعر الملهم دافع عن لويس السادس عشر وشارك بالثورة الفرنسية لتقطف رأسه
آخر الكلاسيكيين الكبار وملهم هوغو ولامارتين وفيني، نشر أندريه شينييه (1762-1794) المولود في القسطنطينية (مدينة اسطنبول الحالية) نصين في الشعر خلال حياته، Le Jeu de Paume (1791) و Hymne aux Suisses de Châteauvieux (1792) بعد مشاركته في الثورة الفرنسية، قُتل بالمقصلة في سن الثانية والثلاثين، تاركاً وراءه العديد من المخطوطات. تم اكتشاف عمله، المستوحى بشدة من الشعر الكلاسيكي القديم، في القرن التاسععشر.
استمر أندريه شينييه ، الثوري الذي أدانه الإرهاب لدفاعه عن لويس السادس عشر، في الكتابة أثناء سجنه في سجن سان لازار (بين 7 مارس آذار و 23 يوليو تموز 1794)، حتى يوم إعدامه. له ambesلذلك لن يتم نشرها إلا بعد وفاته. (الآمب نمط شعري كلاسيكي)
مثل الشعاع الأخير، مثل الزفير الأخير
تتحرك نهاية يوم جميل،
عند سفح السقالة أحاول استخدام القيثارة مرة أخرى.
ربما حان دوري قريبا.
ربما قبل الساعة التي تدور حولها
وُضعت على المينا اللامعة،
في الستين خطوة حيث طريقه محدودة،
قدمه الرنانة الساهرة،
نوم القبر سيضغط على جفني.
قبل ذلك من نصفيها
هذا السطر الشعري التي أبدأ به وصل إلى النهاية،
ربما في هذه الجدران المخيفة
رسول الموت المجند بظله الأسود
برفقة جنود سيئي السمعة،
تهتز باسمي هذه الممرات الطويلة المظلمة،
وحده، في الحشد المتنقل
أتجول، أشحذ هذه السهام لمضطهدي الجريمة،
مجرد دعم ضعيف للغاية،
على شفتي فجأة تعلق القافية،
وتحمل ذراعي أعباء القيود،
يجرونني ويتجمعون في حشود وأنا أمر
أمام رفاقي المنعزلين الحزينين،
كل من عرفني قبل الحكم الفظيع،
لكن من لا يعرفني بعد الآن.
حسناً! لقد عشت طويلاً يا لها من صراحة مهيبة
من ثبات الرجل وشرفه
ما هي الأمثلة المقدسة الحلوة لروح البار،
يا له من ظل سعادة.
قدم الشعر الفرنسي أمثلة عميقة ذات روح إنسانية غير مسبوقة في التاريخ البشري، ربما لفرادة الشعراء الذين تعرضوا لمحنة السجن، فمنهم من دفع الثمن من حياته مثل شينييه. لكن قلوبهم لازالت حاضرة تخلد وجودهم وتبعث على أمل الحرية التليدة فهم أحرار حتى في حفرة فرانيوا فيون بل ويسخرون ممن هم عبيد الحياة والملذات وهم أسيادها تواقين للخروج من أقفاصهم كالطيور المهاجرة التي تحلق بأجنحتها في السماء مثل دورليان. ليؤكدوا حقيقة عظيمة أن الشعراء يموت سجانيهم وتطويهم صفحات الحياة أما هم فلا يموتون وكلماتهم تبقى حية.