أنهيت رواية سندو وهي أول رواية مكتملة العناصر في الأدب العربي التشادي وطُبعت عام 2004، بجلسة قراءة واحدة. كانت عمل سحري أصيل وواقعية سحرية غير مسبوقة اللهم إلا في كتابات غابرييل غارسيا ماركيز عملاق الواقعية السحرية في العالم، الأجمل أن كاتبها عربي في الدولة العربية المظلومة في دخول الجامعة العربية، وهذا المارد الروائي المحلق بنا في سموات انجامينا العاصمة وشخصياته وحكاياته وكافة مشاكل المجتمع التشادي.
تطرق بروايته لكافة القضايا من فساد وسوء النية التحتية والفقر والغنى والصراعات والتنافس القبلي، والريف الصادق البريء الغير مخدم، والعادات والتقاليد البدائية في بعضها والمنطقية في جوانب أخرى، والروح الإفريقية والاستعمارية والعربية والإسلامية والصراع فيما بينها، ومسألة الهجرة ومغامرة بطل الرواية نحو جوهانسبرغ في جنوب إفريقيا للبحث عن حياة أفضل وفشله بتلك الرحلة وتوقفه عند كينشاسا، وتقلبات الناس وتغيرهم والفساد الإجتماعي والسياسي، وبلغة ساحرة نقلنا لكل ما نتخيله وما لا يمكننا تخيله.
كنت محظوظاً بقراءة هذا العمل كأول عمل أطلع عليه من الأدب العربي التشادي، ومحظوظاً أكثر بالتعرف على تحفة في الأدب العربي والإفريقي جنوب الصحراء.
أذهلتني الصور والحبكة وإن ضاعت أو ترك لنا الكاتب استنتاجها أو تخيلها لكن تماسكها من حيث المكان والزمان والراوي جعلنا نستمر بها للنهاية.
شخصية سندو والمعلم أيسر والمحبوبة كبرى وحسن مؤمن، والخال ايبسو من جيل المستعمر الفرنسي حينما عمل في بناء مطار إنجمينا، والملونين من بقايا المستعمرين والرجل الأزرق الحمال. وفساد المدينة وخماراتها ومطاعمها غير النظيفة. والتشرد وعبور الحدود اللاشرعي، ودولة تعتمد المساعدات والتبرعات في كافة مفاصل حياتها.
كانت الصورة قاسية ومؤلمة لكاتب غاية بالحساسية والتحنان على وطنه في وصفه ودقة كلماته المفرحة أحياناً والموجعة أحياناً أخرى.
علمنا عادات مدينته انجمينا وعرفنا على تقاليدها واقترابها من عاداتنا أحياناً واختلافها عنها أحياناً أخرى، مثل وفاة والده ويوم التصدق أو كما نسميه في الشام الختمية، لكن الختمية في بلادنا تعتمد على أهلى المتوفى ومساعدة الأقارب من العائلة والعشيرة ذاتها، أما التصدق فهو للمعارف والجيران في انجمينا.
اشتركت مع سندو في قضية عبور الحدود الغير شرعي والصعوبات الجمة بين الموت والحياة وحمل الروح على الكف، في الكارثة السورية وحركت لي ذكريات وأحاديث أصدقاء فعندما التقطهم الجنود وذهبوا بهم للنهر ذكرني بخطورة عبور اللاجئين السوريين والعراقيين والايرانيين والأفغان والأفارقة للنهر الذي يفصل بين اليونان وتركية والبعض يغرق.
ربما كانت روايته قد صدرت عام 2004 إلا أنها كانت ترى موجة اللجوء العارمة لأوروبا عام 2015 والموجة الثانية على الحدود البيلاروسية البولندية نهاية عام 2021.
هذا الهم وهذا الفساد في المنظمات رأيته في العمل الانساني ومؤسسات المجتمع المدني داخل وخارج سورية، وكأن الكاتب الانسان يعيد قراءة روايته لشعبٍ آخر ووطن آخر. وكأن الهم واحد وهذا الصراع المناطقي والقبلي وشراء الذمم بالمال وغيرها تحاكي يومنا هذا وبشكل عاري ومجرد.
المرأة في رواية سندو متنوعة بين أم حنون وعمة ظالمة وفتاة جامعية وعشيقة تتبع مصالحها ومغوية ومعتدلة وغيورة ومؤثرة ومتأثرة وتابعة وسيدة.
نقل آدم يوسف لنا صورة متكاملة لعذابات الناس وجراحاتهم، وتحديهم للحياة وتقلبات طقس البلاد كتقلبات نفوس وأخلاق الناس، والدعويين في المساجد والخلافات بين الصوفية والسلفية، وركوب السيارات الفارهة لرجال الدين المسيحي والإسلامي وفسادهم، ورجال الطب الشعبي والسحر والشعوذة. وحكايات الخراريف كما نسميها بعاميتنا من زواج الجن وغيره والذي كنا نسمعه صغاراً من جداتنا.
كيف كان سندو في قريته وديعاً آمناً وكيف عاش مستقلاً وكيف نشأت علاقته الطيبة مع معلمه ياسر، ودفء العائلة التي حُرم منها وكيف حنان أبيه الذي أتى متأخراً وحنان أمه الذي فقده مبكراً.
حتى أحلامه الغريبة بحث لها عن مفسر، وبالإجمال الرواية مدهشة من 227 صفحة لن تملها ولن تدعها وحدها كما لن تدعك وحدك، فتؤنسك إلى أن حصل سندو على منحة لفرنسا وغادر من المطار كإنسان وصل مرفوع الرأس بفضل دعم أصدقائه ومحبيه.
العمل يتسم بالإنسانية المطلقة يناقش وضع المرأة عبر حوار بين حداثوي وتاجر أوهام، بين صورة تقليدية وصورة عصر جديد.
يتحدث عن اعتدال الشيوخ في المساجد وإعادة الحقوق لسندو وورثته من والديه، وعيشه الآمن داخل قريته وبين أهله وناسه إلى أن نال حقوقه وعاد ثرياً صغيراً قادراً على بدء مشروعٍ نظيف ومطعم صغير في العاصمة ثم ليقرر استكمال دراسته الجامعية.
من حقي الاحتفاء بكل أدب عربي في أي مكانٍ في العالم، وللأسف أهملنا طويلاً دعم اللغة العربية جنوب الصحراء على الأقل بالتعريف عن أدبائها وشعرائها وتقديمهم لعالمنا العربي المتشرذم اليوم من القطب الشمالي للجنوبي لأنني أصبحت أعتقد بوجود حتى سوريين من أبناء وطني هناك.
أشكر لصحيفة انجمينا الجديدة التي وفرت للقراء رابط هذه الرواية الهامة والمفصلية والأيقونية بحق.
*خاص بالموقع