في الحقيقة قبل قليل أنهيت الرواية العظيمة سمراويت، والغريب حصولها على جائزة الشارقة، وهي من بلد دائما نكتب له بمحاذير وخطوط حمراء وصفراء وبرتقالية، لكن رواية سمراويت عدا أنها متكاملة ومذهلة وعالمية بامتياز، فإنها سلسة لدرجة أنني أنهيتها في جلسة واحدة.
مأخذي الوحيد فيها ألا تنتهي الرواية بزواج عمر المسلم من سمراويت المسيحية والتي تربت في فرنسا مع والدها المعارض للنظام الارتري وهو روائي ووالدتها الشاعرة اللبنانية.
فكيف لهذه الطبيعة المنفتحة للاجئ عاش جل حياته في مدينة جدة المعروفة بانفتاحها عن كافة المدن السعودية وتلك الفتاة الشابة القادمة من فرنسا ليكون اللقاء أسمرا، ألا يتوج بالعلاقة الأبدية لرواية عظيمة.
تنقل حجي جابر بنا بين جدة المدينة الجميلة بأهلها وأناسها ما قبل سياسة السعودة، حينما كان المغترب فيها لا يشعر ذاته إلا في وطنه وكيف لصحفي أجنبي كما تطلق السعودية على العرب المغتربين فيها أن يصل ما وصل إليه في صحيفة سعودية.
تنقل الكاتب بنا بين المعارضة وجماعة الشعبية في ارتريا ونقل لنا مختلف الآراء وعبر بذات الوقت عن تنوع وغنى المجتمع السعودي ولحظات الغربة والكربة للأجنبي فيها، ولحظات الانتماء.
من البداية حدثنا الصحفي عمر بطل الرواية أنه يمتلك نصف انتماء ونصف هوية وعبر عن أدب الشتات، فمعظم حياته هو سعودي ولكنه في هذه اللحظة لدى وصوله أرض أسمرا عاد ارتري، عرفنا على عراقتها وهوياتها المتعددة من طراز إيطالي لعثماني حتى عاد للختمية منزل آبائه وأجداده في مصوع الميناء العربي الأشهر على البحر الأحمر بل ووصل إلى سجن دهلك، عرفنا على تاريخ الثورة الارترية وتحولها لحرب أهلية داخل أجنحة الثورة الارترية ضد المستعمر الحبشي والتي أخرت استقلال ارتريا عشرين عاماً للوراء، لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ذكرها حول انقسامات الارتريين، ونقاط قوتهم وضعفهم وهو ذات أسلوب أنظمة عربية أخرى في التعامل مع المغتربين من باب قنصليتها إلى باب مطارها.
حدثنا عمر عن طفولته وصداقاته وعذابات تعليمه وجدته وعادات وتقاليد أهله، وكان كالكتاب المفتوح، وحتى فترة مطاوعته وانضمامه لجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفعهم للجهاد في أفغانستان ومفارقته لهم بعد اكتشاف زيفهم وادعاءاتهم وعنصريتهم للغريب فيما يحملون شعار إنما المؤمنون أخوة حينما سأل شيخ كبير وإمام مسلمين عن شروط تجنيس الأجانب في المملكة.
قام بتعرية النظام الارتري الحاكم بعد الاستقلال وأشارة لمسألة محاربة اللغة العربية وفرض التغرينية للقضاء على الهوية الإسلامية وطمسها، وأشار لحكم الأقلية المسيحية على حساب الأغلبية المسلمة وهي ذات اللعبة في سورية على سبيل المثل عندما تحكمت الطائفة العلوية باغلبية سنية كاسحة في سورية، وكأن تلك الأغلبية غرباء في أوطانهم وهم روحها وترواحها.
كشف الروائي حكم الحزب الواحد على طراز الدولة السورية الفاشلة والأقرب اليوم للانقراض بسبب حزب شمولي يحكمها منذ عام 1966، ربما أنا أقرأ الهم الارتري بدقة أكثر لأني سوري من أي عربي آخر لأن والدي عانى الغربة ل22 عاماً في السعودية فقط لكي لا يخدم بجيش الأسد الأب ولا يقول كلمة “يا سيدي” المقيتة، ومنه عرفت عادات وطباع أهل الرياض النجدية وجدة الحجازية وكيف أهل جدة خيرة الناس لتنوع أصولهم بين تجار اليمن وبقايا الحجاج والمهاجرين من مئات السنين والمستقرين فيها. والأقرب للروائي حين وصف تعامل بلاده معه كمغترب وفرض النظام الارتري خدمة العمل الغير محددة بزمن، لأجل معارك لم تعد موجودة، وإن وجدت فهي مجرد هزليات مسرحية كمعارك سورية مع اسرائيل.
الأقرب لسمراويت لأني وجدت كيف يخشى الناس الحديث حول الرب الصغير في أسمرة كما الخوف من الحديث عن الرب الصغير في دمشق.
كل هذه التقاطعات تجعل روح الكاتب تمنحني الشعور وكأني عمر وكيف تنقلب السورية التي تعيش في باريس لمسيحية في دمشق وأي أقلية أخرى في بلادي، بينما تصبح أوروبية وغربية في أوروبا.
فجأة تنقلب متمسكة بالتقاليد وهي التي لا تعيرها أقل اهتمام حتى وهي بعيدة عن وطنها، وتلك الازدواجية وهذا الكذب والخداع.
الخوف من دخول البلاد والذهاب ما وراء الشمس والشعور بالمغامرة لمجرد أن تصل لمطار وطنك كونه غير آمن فربما هناك من دس عليك الدسائس حتى لو لم ترتكب أي خطأ.
رواية مهولة وصارخة وعظيمة ليست مجرد أدب شتات بل أدب هوية مطلقة يعيشها كل عربي اليوم.
حتى عندما وصل للختمية في مصوع تذكرت أحاديث جدتي عن قرية أهلي بالجولان مويسة وتخيلت اللحظة التي سأزور فيها حطام منزل أهلي أو ما تبقى منه وكيف ستكون ردات فعلي. وكلنا يعلم أن حافظ الأسد هو من سلم الجولان وقائد جبهته المير ارتدى زي امرأة وركب حمارة هارباً لدمشق وأعلنوا حينها أن البعث انتصر وأي انتصار عام 1967.
تخيلت بلحظة بل وبكامل اللحظات أن عمر هو أنا النازح في دمشق والغريب عن أهلها والمنتمي لها بذات الوقت والمولود فيها، وذات الأمر لكاتبنا ابن جدة، فإلى من ينتمي لجدة أم لمصوع وأنا لمن أنتمي لمويسة أم لدمشق أم لاسطنبول اليوم.
ربما سيقرأ الكثير من العرب أنفسهم بتلك الرواية في أمة الخراب تلك أمة العرب.
*خاص بالموقع