“عضة خرطوش”، “الشخرمة والبزرميط”، “دبكة نيوتن”، “هل ظهر جعموم”. أربع مجموعات قصصية من روائع الأدب السوري الساخر بعد الثورة. تتحدث بشكل خاص عن تجمعات نازحي الجولان بعد عام 1967، لتتحول كما أطلق عليها الدكتور إياس “عشوائيات البعث” وبسخرية لاذعة تمكن كاتبنا من تنميط المجتمع بين البعثية والمخبرين والفقراء البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة، إضافة لشخصياته العظيمة من أم علي فلونة مروراً بعوض وشاعر المومسات والزمبال الأعلى والمنطلقات النظرية لحزب البعث.
قصة اياس غالب الرشيد تدهشك، فعندما أهداني الكاتب هل ظهر جعموم؟ وكنت أقطن حينها في كارتال من القسم الآسيوي من اسطنبول، إذ كنت أغرق خلال رحلة المترو إلى الفاتح، وأنسى نفسي أحياناً، بل وأنسى غابة سيقان الفتيات الجميلات والأنيقات في عالم المترو، لأغرق بغبرة عشوائيات البعث وأوحالها، ومفارقات نازحي الجولان وبساطة المشهد الملفت بل وأضحك مع القصة دون أن أشعر، كانت احتفالية بحد ذاتها مليئة بالعالم المضحك المبكي بين ديستوبيا النظام وطوباوية الناس المحكومين المقهورين المباعة أرضهم منذ عام 1967، لتتحكم بهم المخبرة أم علي فلونة وتسوقهم كما يسوق الراعي الأغنام نتيجة الخوف ورعب دولة البعث وقمعها الشديد، إضافة للبعثي كتيب التقارير الذي لا يوفر أمه وأخته وأخيه في تقاريره.
تتنقل في حكاياته لتصل لعالم سوريي تركية اليوم من الإعلام المستنسخ عن النظام والمسخ المشوه، ليصف شاعر المومسات في بارات تقسيم، وهو من يستغل موقعه بإحدى تلك المؤسسات ليؤكد أنه زمبالي (بعثي) أصيل، فيستغل الفتيات السوريات الطامحات بوظيفة بالدولار تخرجها من بؤسها المدقع في تركية، ليمارس رذيلته ويهرب من الأوتيل بلا محاسبة تاركاً إياها حطام امرأة بعد تحطيم النظام لها قبل ذلك. هذه المشاهد المؤلمة على سخريتها تعيد لنا أجواء النظام وكيف تلاعب بالمعايير الأخلاقية والتربوية للمجتمع، أو مدير مؤسسة اعلامية أخرى يتسلى مع إحدى موظفاته الجدد وهو المسن في إحدى بارات تقسيم، ليستأنس بوجودها ويعوض مافاته في دولة البعث. وكأننا أمام مشهد من مشاهد رواية (الجميلات النائمات) الديستوبية للروائي الياباني العملاق ياسوناري كاواباتا. بالمقابل مشاهد الدكتور إياس تبرز لنا مشاكلنا وأمراضنا الذكورية تارة وأمراض المرأة النسوية تارة أخرى في ثنائية جلاد-جلاد وجلاد-ضحية وضحية-ضحية وضحية-جلاد. ويجمع عدة مستويات ثقافية من الإرث الديني للاجتماعي للتاريخي ويسخر من العقائديين من بعث وغيره في مرونة عجيبة لهذا المجتمع المتفرد بجنونه وعبثيته تارة والمنضبط بعقلانيته ضمن عالم يخلو من العقلانية تارة أخرى.
هذه المشاهد المخزية للمجتمع المريض والتي ساهم البعث بتشويه بنيته، تجعل الصورة الساخرة التي يبنيها الكاتب في سرديته مثيرة وعميقة بذات الوقت في رسالتها.
يثري الكاتب اللغة العربية بالمحكي والدارج، فيقوم بذلك باسقاط شديد الذكاء ولماح على واقعية الحدث، ويقود القارئ بكل أريحية لنهاية قد تؤدي به منفجراً ن الضحك وباكي بذات الوقت.
أيضاً عناوين مجموعاته القصصية تثير فضول القارئ لمعانيها المضحكة مثل الشخرمة والبزرميط والتي تأتي بمعنى السيء والأسوأ بالعامية المصرية، إذ يرى الكاتب السوري الكثير من التنوع المذهل والجميل في العامية المصرية تماماً كمصر حيث تجد فيفي عبده وأم كلثوم وعبد الباسط عبد الصمد وطه حسين ونجيب محفوظ، والكثير الكثير من التناقضات التي تميز ابداع مصر وأهلها.
وهنا سأضيف واحدة من حكاياته بقفلاته الممتعة وإمعانه في إظهار تناقضات المجتمع وتساؤلات تبدو بلا نهاية تجعل من قصته مرجع دائم ومرآة على تضخيمها تماماً كأسلوب الكوميديا المسرحية إذ يضطر المسرحيون لرفع نبرة صوتهم خلال الإلقاء، وكذلك تتميز القصة الساخرة بعلو كعبها وصراخها :
جمهورية زمباليا
ديوان حضرة مولانا الزمبال الأعلى للبلاد
القيادة القطرية الاحتياط
مكتب الرفيق نوفل
الهيئة الشعبية لمكافحة الصماط ( التسلخات الجلدية)
إبماناً من حضرة مولانا الزمبال الأعلى للبلاد بضرورة رعاية كامل جسم المواطن الزمبالي وإنشاء جهة سيادية مختصة برعاية الأماكن الحساسة، فقد تقرر إحداث مكتب الهيئة الشعبية لمكافحة الصماط ( التسلخات الجلدية )، كي يحيا المواطن الزمبالي ببُلْهَنيَّة عيش ونعيم مقيم، ويستخدم أصابع يديه لما يفيد دولة زمبالية، ولا يشغلها بالحك غير المجدي، كما وسيخضع كل مواطن زمبالي لفحص دوري يتم من خلاله الاطمئنان على مؤخرته الشريفة.
وإيماناً برسالة حضرة مولانا الزمبال الأعلى للبلاد بضرورة مشاركة بقية شعوب الأرض بالتجارب العلمية والتقدم العلمي؛ فسوف يُخصص مكتب للارتباط الخارجي لمساعدة بقية الدول التي تعاني من الصماط (التسلخات الجلدية)، وإيماناً برسالة حضرة مولانا الزمبال الأعلى للبلاد وتوصياته بأن رفاقنا في النضال هم أولى بأن نرعى مؤخراتهم، فقد وصلنا تقرير سري بأن رفيقنا الشاعر الكركدن شاعر المومسات في الشانزلزيه قد تهتكت مؤخرته من الصماط، بسبب إدمانه الجلوس في تنكة الكولونيا؛ خشية الكورونا، على الرغم من تحذيرات رفاقنا في الحزب له، إلا أنه ركب مؤخرته، ورفض التوصيات، وبناء على ذلك فقد تقرر إرسال بعثة على أعلى مستوى من علماء زمباليا في موضوع الصماط برئاسة الرفيق الدكتور عوض للكشف على مؤخرة الكركدن الشريفة ومعالجتها، كما أوصى مولانا الزمبال الأعلى بوضع الدكتور عوض تحت المراقبة الدقيقة أثناء معالجة مؤخرة الكركدن خشية خروجه عن النص.
واخد بال زمبالك.
*خاص بالموقع