محمد زعل السلوم: أدب الثورة في رواية فوق الأرض لمحمد فتحي المقداد وصرخات الوجع السوري

0

صدرت الكثير من الروايات السورية بعد الثورة السورية المباركة عام 2011، ودخلت في عدة أنماط بعضها أطلقت عليه وصنفته ضمن أدب اللجوء كما في رواية كاتبنا المميز محمد فتحي المقداد “الطريق إلى الزعتري” وبعضها صنفته ضمن الأدب النسوي السوري، واليوم أجد أدب الثورة بل وأدب الكوابيس والنهايات وأدب مكابدات الثورة كما في رواية فوق الأرض.

قام كاتبنا بصفته المتحدث في الرواية باسم فطين يستذكر لحظات الثورة منذ بداياتها ويختار شخصيات نمطية للثورة، وتحولات تلك الشخصيات مثل نصار الذي تحول لقائد في الجيش الحر انتقاماً لأخيه الذي اغتالته رصاصات قناصي النظام، ومعن الذي جسد القيادة الواعية للثورة السلمية فاغتاله النظام، وسعيد الذي جسد الذاكرة الحية للثورة وفاضل السلمان الذي جسد شخصية الإعلامي الثوري، وهالة نجم التي جسدت المعارضة الخارجية، والطفل سمير الذي عبر عن روح الثورة وأطفال درعا، وعيون حمدة ابنة عمة نصار التي تعيش مع زوجها في السعودية، وعبر سوريو الخارج عن تعاطفهم فيما عانى سوريو الداخل طريق العذابات والجراح والآلام في طريقهم للصلب والتمثيل بجثثهم فوق الأرض.

كان الوجع صارخاً والسرد رتيباً بالأنين والاقتباسات من أمل دنقل للأمثال الشعبية لمعاوية ويزيد وصولاً لأغنية فيروز أجراس العودة فلتقرع وانتهاءاً بحكاية صاحب جرة العسل عن كليلة ودمنة.

تعددت مستويات اللغة فكانت لغة الجبن والخوف والغدر شعبية ولغة الثورة وروحها فصيحة.

لا يمكن للسوري قارئ هذه الرواية إلا أن يشعر بالضيق لتشابه أحداثها في كل ركن من الأرض السورية، هي رواية الألم والصدمة والأجواف اللاهبة واللحم الطازج لدماء شهدائنا والأموات الأحياء الذين يكونون نحن، الذين عشنا تلك الرواية لحظة بلحظة وحادثة بحادثة وجرح بجرح بل ومجزرة بمجزرة. فلم يفتنا قطار الثورة وعشناها زنقة زنقة دار دار.

تتميز الرواية بأبعادها قبل وبعد الثورة، وتحولات الناس وهم يعيشون الجحيم ذاته ولكن فوق الأرض، فليس من هم تحت الأرض هذه المرة من يعيشون الضيق. صور كاتبنا وببراعة سورية الأسد بالسجن الكبير والمقبرة الحية المفتوحة على مصراعيها للموت بلا هوادة، بل ولم يترك ذاك النظام الآثم حتى القبور وشأنها بل وقصفها بطيرانه لتكتمل صورة العصر الهمجي والوحشية لنظام هولاكو العصر.

فوق الأرض وأدب النهايات :

يمكنني تصوير نظام البعث والنظام القومي العربي بالإجمال بأنظمة النهايات العربية سواء بمدرستها الناصرية أو البعثية الشامية أو الصدامية فجميعها أوصلت شعوبها من فوق الأرض لما تحت الأرض وحولت أوطانها لخرابات ومدن بلا معالم، ففوق الأرض كانت حاضرة الرشيد وحاضرة أمية وأرض الفسطاط. الرواية تصل بنا للنهاية، نهاية الموت وما بعد الموت بل وبلوغ قمة الموت بلا حتى أية ظلال. ولم تكن الثورة إلا نشوة قمة الموت ذاك.

فوق الأرض وأدب الكوابيس :

رواية فوق الأرض هي رواية كابوس أو جاثوم يُثبّت الذاكرة السورية على لحظة عدم النجاة وصراخ الأموات فوق القبور وتحت القبور لكن السماء انغلقت والأرض مادت على من فيها، والبقاء للأقوى وتلك الزرادشتية اللعينة التي تحكم عالم اليوم السائر نحو الأسوأ بلا هوادة، فهي رواية سوداوية بامتياز، ومجلس عزاء لا ينتهي واغتراب بشري في معمعة الوحشية، ورفض لوقائع خدعة اسمها وطن وهو في الحقيقة وطن مجوف غير قابل للحياة منذ تأسيسه في عصر سايكس بيكو، وصرخات البشر فيه مكتومة.

فوق الأرض وأدب الثورة ومكابداتها :

كل ثورة في الأرض هي حلم جميل ومبارك بعد ليل طويل وتعد إشراقة شمس نهار بعد ظلمة، ففوق الأرض تقبع الثورة رغم عصرها وتحطيمها وتكسير أطرافها بحجارة المجرمين.

فوق الأرض رواية نشعر بها بأننا محاصرون مقيدون، مع استمرار القاتل حراً طليقاً، وبل ولا أمل منشود ولا ضوء مرصود في آخر النفق، هي استذكار للعجز والإنكار بذات الوقت، وفضح لتفاهة الشر، ومع ذلك يبقى الإنسان الذي لا زال فوق الأرض ينقل الحكاية والحقيقة كما هي، المنتصر الوحيد لأنه ببساطة لازال فوق الأرض حراً طليقاً في وجه نظام لابد بائد.

فكما يستفزني تصوير الألم السوري من ناحية الأوجاع سواء في درعا أو دمشق أو إدلب أو أي ركن في سوريا، ويوقظ أوجاعي فهو يعطيني بارقة أمل نحو الخلاص وأن لا عبثية في الموت كما لا عبثية في الحياة فالطاعون واحد لدى الشعوب الحرة وهو طاعون الطاغوت.

لن أصف الرواية بالعدمية بقدر ما يمكنني وصفها بالتوثيقية الحاضرة الغائبة في قلوب المعذبين والمشردين في الأرض أو القابعين اليوم تحت ظل ثقيل يصعب فك طلاسمه إلا بالدماء.

وقد برع كاتبنا الرائع محمد فتحي المقداد في نبش الذاكرة العاشورائية السورية، وتصويرها كما هي في الصراع الأبدي بين الخير والشر، بين الحرية والاستعباد. دون أقنعة أو تلفيق بل كما هي فائقة الوضوح فاقعة الألوان.

*خاص بالموقع