محمد رشو: كَولين

0

من يدعى گولين لا بد أن يكون نحيفاً وطويلاً بشعرٍ منكوش، رعى الماعز في الجبال وهو فتى، عزف على الطنبور أو عمل مدرساً وكيلاً في الريف قبل أن يودع السجن لستة أشهر دون تحقيق، وربما كان عامل بناء، ومدمن شِعر يرتدي نظارات طبية، أنيقاً ومهووساً بورق اللعب: الحياةُ هنا، أكثر من إلهاء زوجةٍ داهية كيلا ينتف الأمير ذقنه، الإسكامبيل حياة، انظرْ: الكوبة ♥ تمثل الكنيسة، البستوني ♠ الجيش، السباتي ♣ الزراعة، والديناري ♦ يمثل التجار.

وكانوا ينادونه: “كابجي” أي المقامر، وذات مرة كان في مقهى الفرسان قرب جامع الشيخ طه وظل يخسر، وحينما راهن على آخر مئة ليرة معه، رفع أوراق اللعب العشرة، ووجد، يا إله الحظ، ست منها مصفوفة وراء بعضها، ثلاث بنات، ثلاثة عجائز مع الجوكرين وورقتين مختلفتين، لكنه ظل يسحب الورقة تلو الأخرى دون أمل حتى كاد الورق أن ينتهي من على الطاولة وليصف الخصم أوراقه قبله كاملة ويغلبه، ومنذ ذلك اليوم لم يعد گولين الذي يعرفه من حوله، اكتفى ببنطال جينز ومعطف طويل في الصيف والشتاء، كان يحمل معه ورقاته العشر ويدور في المقاهي ليستوقف من يصادفه:

 إذا هادا الإيد معك، تفتح ولا لأ!

وحين أصبحنا صديقين كان قد عاد متأنقاً، وكان قد قضى سنتين عند طبيب الأمراض النفسية والعصبية عبد الخالق سلطان في شارع بارون، وسنتين في بيروت ثم استقر فيها خمس سنوات أخرى، جلس فيها على البارات وخالط الكتّاب وتعلم الفرنسية، ليعود بعدها بعرجٍ خفيفٍ في القدم اليسرى جالباً معه ديوان “كيمه أز” لجيگرخوين و”الشعر الفرنسي الحديث” بترجمة پول شاؤول وذكريات جورجيت التى كانت ترتاد معه ملهى في الغربية، وترقص له وهو يغني: “سينغيه سبي بدرجو، ريه ناديه هرمه حجو” (الصدر الأبيض ذو الدرج، لا يفسح لي الطريق لأحج) ولكنه كان ما يزال عازباً، وينتكس كل عام شهرين إلى حالته، يصبح شهوانياً وعنيفاً، يقول إنه يستطيع أن ينيك العنزة، ويثرثر ويدّعي أنه تطوّع في معسكرات البقاع، وأنه قاتل في جبال آگري قبل أن يعمل سائقاً لدى عبد الله أوجلان، وأنه رافقه ذات يوم إلى كافيتريا على طريق البحر وشرب معه الويسكي، وثم يقول: “الشعر عنا صفّ حكي، الشعر لازم يكون حياة، ولا يفسّر أو لا يستطيع”، وثم ينشد لجاك بريڤير، جان فولان وأوجين غليفك، وكان يكتب بالكردية والعربية ما أكاد أقول إنه بالغ السوء لولا أنه كان يبقيه سراً، ثم أخذت فترات جنونه تطول، فيدّعي أن جورجيت كانت تخونه مع فلسطيني وأنه كان يخونها مع فلبينية، وأنه ما يزال يحلم برجلٍ قتله قبل أن يعبر الحدود، لم يكن عدواً حتى، يكوّم قبضة يده اليمنى ويهوي بها على رقبته ويقول: هكذا، بحجرة على البصلة، وأن الميت ينهض بجمجمته المطعوجة وعينيه البيضاوتين ويضحك له في الليل.

كان في الأربعين وكنت ما أزال في الثامنة عشرة، رافقته ثلاثة شهور قبل أن يصطحبني يومها إلى اجتماع سري كان يعقد في واحد من تلك المنازل البلوك وغرفتين ومطبخ في آخر حارة جبل السيدة، تكلموا فيها عن اللغة، عن جلادت بدرخان، عن كوردستان الكبرى، وصفَ گولين من كان يحاضر بأنه عميل، ومن كان يجلس بأن منهم من هو لص ومنهم من هو قديس، ثم عرضوا مسرحية عن “مم وزين”، كان مسرحاً فقيراً على الأرض، وكان الممثلون هواة، ولا حبكة فيها سوى الصدفة، لكنه ظل يلف ركبتيه بذراعيه المتشابكتين، ويحدق في الممثلة وكأنها تخاطبه هو ولا أحد غيره، وحين تمددتْ لتموت مع حبيبها رأيتُ أنه كان يخفي وجهه بكفه اليمنى ويبكي. واستقلينا الباص متأخراً وهبطنا، نزلنا في ساحة سعد الله الجابري، كنتُ سأموت من الشاي الذي بقيت أشربه، وكان ساكتاً حتى ذلك الوقت، كنت سأتبول في ثيابي، استأذنته لكنه أمسك يدي وقال: انتظر، ثم مد يده إلى جيب داخلي وأخرج عشرة ورقات، ثلاث بنات، ثلاثة عجائز والجوكرين وورقتين أخريتين وقال:

إذا كان معك هادا الإيد بتفتح ولا لأ!

وتركتُ يده في الهواء، ونزلتُ، كان البرد خفيفاً قرب مبنى الأزبكية ودرج القبو معتماً والتواليت مغلقاً، دون أن أنظر حولي، فتحتُ السحاب، أخرجتُ الرأسَ، شهقتُ وزفرتُ حتى شعرتُ أن البحر ينزلق على الحجر ليصل الزبد تحت قدمي فصعدتُ، لم يكن ليلاً ولم يكن فجراً، لا سلماً ولا حرباً، كان رائقاً وأزرق، مشيتُ ولم أراه حيث تركته، وبقيتُ أمشي حتى لم أعد أراه أبداً.

*موقع اكسجين

*من مجموعة قصصية بعنوان “الجوكر” صدرت أخيراً للكاتب عن “منشورات غاليري الأدب” في الدار البيضاء، بعد فوزها بجائزة “غاليري الأدبية” – “دورة أحمد بوزفور” 2022.