قليلة هي المرات التي التقيت بها الكاتب والسجين السياسي السابق، وائل السواح، هي ثلاث مرات فقط، الأولى والثانية بسبب عمله في موقع الأوان الذي كنت أكتب به، والثالثة خلال أحد المؤتمرات السياسية. وفي المرات الثلاث، لم أستطع أن أكسر معه، هالة السجين السياسي التي تحيط به، رغم أنه أكثر تواضعا ودماثة من أن يتصنّع تلك الهالة التي لم يفعل بعد خروجه من السجن إلا الهرب منها ربما، دون أن يتبرّأ منها بطبيعة الحال، إلا أنّ الأمر تلبّسني، نظرا لما في مخيلتي الغضّة آنذاك من تقديس للسجين السياسي.
اليوم، إذ أنظر بعين محايدة قدر الإمكان، إلى تلك اللقاءات، وتحديدا إلى ما كان منها في مقهى الكمال الصيفي في دمشق، أتطلع إلى وائل وهو يدخن تنباكه بهدوء وصفاء من هو قادر على امتصاص قلق وغضب وأسئلة محدثه، يهتم بكل تفصيل، يسأل، يحكي، يعطي رأيه، يستمع، ثم يغادر، لكن ليس قبل أن يترك دفئه الذي يعرف كيف ينثره أينما حلّ وارتحل.
مذّاك وأنا أقرأ كل ما يكتبه، مقالا مقالا، وفي كل مقال أكتشف شيئا جديدا، ليس في ثقافته الواسعة والموسوعية فحسب، وليس في تجربته النضالية الكبيرة فحسب أيضا، بل في التواضع والحب والدفء الذي لا يزال قادرا على منحه إيايّ من خلال كتاباته التي أقرؤها كما لو أني أستمع إليه وهو يرويها لي في مقهى الكمال بصوته الهادئ وسمرته الأليفة. أليست هذه هي الكتابة؟ أن تجعل القارئ قادرا على تخيّلها واقعا؟ أن تجعل القارئ يشعر أنك تكتب له؟ أنه صديقك؟ هذا ما فعله بنا وائل السواح الذي لم يستثمر في “هالة” السجين السياسي، بل راهن على هالة الكتابة والمحبة والدفء الذي لم أزل أشعر به، مذ احتضنت يداه يديّ قبل أكثر من عقد من الزمن.
هذا الحوار والملف، تحية لوائل السواح، وإطلالة على قليل من دفئه ونضاله وآرائه الموّزعة على اهتمامات شتى، وتواريخ كبيرة وصغيرة، وصداقات كثيرة نقرأ بعضا منها في هذا الحوار.
أولًا، دعني أقدم لك شكرًا كبيرًا على أمر، هو شخصي بقدر ما هو عام، وأعني بذلك شكري لك على مئات المقالات التي نشرتها في درج وتلفزيون سوريا، والتي تتحدث عن تجربتك وتجارب رفاقك في حزب العمل الشيوعي. هو شكر شخصي لأنّني شخصيًّا استمتعت بكلّ مقال على حدة كما لو أنني أقرأ قصيدة، وهو شكر عام لما تحمله تلك المقالات من شهادة صادقة عن مرحلة مفصليّة في تاريخ سوريا لا تعرف عنها الأجيال التالية لجيلك الكثير. لكن مع ذلك، سيكون سؤالي نقديًا، وهو موجّه لك ولكل جيلك تقريبًا: ألم تتأخر في كتابة هذه الشهادة/ المذكرات؟ لماذا اليوم وليس قبل الآن؟ وهنا قبل أن تجيب، سأكون صريحًا معك: كنتُ وأنا أقرأ تلك المقالات دائمًا أسأل نفسي هذا السؤال: لماذا لم يكتب وائل هذه الشهادة في وقت سابق؟ لو كنّا نعرف هذه المعلومات أو التفاصيل (وهنا أتحدث عن الشق المتعلق بنشاطكم السياسي ضد الدكتاتوريّة خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي)، ربما لكان جيلي امتلك وعيًا أكثر دقة وواقعيّة وهو يقارع الدكتاتوريّة إياها بعد ثلاثين عامًا من نضالكم الأول الذي ما كان نضالنا ليكون دونه أساسًا؟ إلى أيّ حد تتحملون جزءًا من غياب هذا الوعي؟ أم أن نقدي هذا مجرد ترف “مثقفين” يطالبكم بما لم يكن ممكنًا في ظروف وشروط أكبر من قدرتكم، وهذا ما نود معرفته أيضًا حال كان كذلك؟
أولًا، أشكرك جزيلًا على هذا الإطراء اللطيف. لو كنت أعرف أن لكتابتي هذا التأثير لفعلت ذلك منذ عقود.
ولكن لنتحدث بجد، الكتابة فعل يحدّده عامل ذاتي وآخر موضوعي. لو أنّني كتبت المواد التي تتحدّث عنها، والتي تتناول تاريخ الدكتاتوريّة السوريّة والكفاح ضدّها، فأين كان يمكن أن أنشرها؟ وما العقابيل التي كنت سأتحمّلها نتيجة ذلك؟ كان لا بدّ أن ننتظر الثورة لكي تفتح آفاقًا جديدة لنا لنكتب في الماضي والحاضر والمستقبل، دون خوف. لقد فتحت وسائل الإعلام العربيّة والأجنبيّة ذراعيها للكتّاب السوريين بعد الثورة، كما أنّ الثورة الرقميّة ووفرة المواقع التي بات من الممكن أن نكتب فيها ساعدنا على فتح هذه الأبواب.
مع ذلك، فثمة سبب آخر دفعني للكتابة عن تجربة اليسار السوري في السبعينات والثمانينات. أنتجت الثورة جيلًا من المناضلين الاستثنائيين الذين نفضوا الخوف عنهم وواجهوا الرصاص بالصدر العاري، وأبدعوا طرقًا للنضال لم نكن نعرفها، ثم أبدعوا خطهم المستقل سياسيًا وفكريًا. ولكنْ لفت انتباهي أنّهم كانوا يعتقدون بأنّهم زهرة نبتت في صحراء، وأنّ سوريا لم تعرف قبلهم مناضلين عملوا في السياسة وقارعوا النظام ودفعوا لقاء ذلك عقودًا من حياتهم في المعتقلات، بل ودفع بعضهم حياته كلّها. لذلك خطر ببالي أن أبدأ بطرح سيرة اليسار السوري، ليتعرف الشباب السوري على أسلافهم من المناضلين السياسيين.
ومع ذلك، فثمة عامل ذاتي. كتابتي عن اليسار السوري جاءت في صيغ مذكّرات، وأنت تعرف أنّ الواحد منّا لا يفكّر في كتابة مذكراته إلا بعد أن يفرغ من الفعل فيبدأ بالكتابة عنه.
خلال متابعتي لكتاباتك ونشاطاتك وبشكل أقل لشبكة علاقاتك الاجتماعيّة، انتبهت إلى أمر بدا لي جميلًا ومثيرًا في نفس الوقت، وأعني بذلك أنّك تعرف عدد كبير من المثقفين السوريين، ولك علاقات مباشرة معهم، ومن جانب أخر تعرف أيضًا عدد كبير من المشتغلين بالشأن السياسي. كيف تمكنت من الجمع بينهما؟ هل هذا عائد إلى تداخل السياسي والثقافي في اهتمامك؟ إلى التجربة التي عشت؟ أم إلى أن الحقل الثقافي السياسي السوري عمومًا متداخل إلى هذا الحد، وأنت بالتالي جزء منه؟ وماذا قدم لك هذا الأمر؟
أسعفني الحظ في حياتي بالتعرّف على عدد كبير جدًا من الأشخاص الاستثنائيين في عالم الثقافة والفن والسياسة، وعايشتهم وعاشرتهم وتأثرت بهم وتعلمت منهم، من مظفر النواب وعلي الجندي وممدوح عدوان وحازم صاغيّة، إلى محسن إبراهيم وطلعت يعقوب وجيلبير أشقر، وإلى العفيف الأخضر وجورج طرابيشي وصادق جلال العظم، إلى سعد الله ونوس ومصطفى الحلاج وفرحان بلبل، إلى فاتح المدرس ومعتصم الدالاتي وسعد يكن، إلى الشيخ جودت سعيد والسيد هاني فحص والأب الياس زحلاوي، ناهيك عن خالد بكداش ورياض الترك وجمال الأتاسي وإدوار حشوة، وغيرهم.
وسأعترف لك بشيء: أعتقد أنّ لديّ انفصامًا في الشخصيّة، فحين أكون مع الأدباء والفنانين أنسى السياسة والسياسيين، وحين أبدأ بنشاط سياسي أنسى المثقفين والأدباء. وحين أذهب إلى حفل موسيقي أو أشاهد مسرحيّة جيّدة، أنسى كلّ من سبق.
والحق أنّني كنت انتهازيًا بعض الشيء، لأنّني تعلمت من الجميع دون أن يكون لي القدرة على أن أتعلّم منهم شيئًا، بسبب فارق العمر والخبرة والمعرفة. قال لي الشاعر علي الجندي ذات مرة: “أنت ليش بتضل ساكت؟” قلت له: “شو ممكن إحكي بوجودك يا علي؟” فضحك وقال: “والله إنتا معبى ببنطلونك”.
أكسبتني علاقاتي بهؤلاء الأشخاص عمقًا معرفيًا وفلسفيًا وحسًّا أدبيًا وفنيًا وخبرة سياسيّة كبيرة. أعرف الكثير من المناضلين الأشدّاء الذين لا يعرفون قصيدة واحدة ولم يشاهدوا معرضًا فنيًا واحدًا. وأعرف شعراء عظامًا لا يأبهون لما حولهم في الحياة ولا يعرفون حزبًا سياسيًا واحدًا أو نظريّة سياسيّة واحدة. أنا لم أكن مناضلًا شديدًا ولا أديبًا عظيمًا، ولكن كان عندي بعض من العوالم كلّها، ما أستطيع معه أن أقول أن هذا صقل شخصيتي بطريقة مختلفة عن الكثير من أبناء جيلي.
سؤال على تماس مع ما سبقه: بدأت قاصَا ثم سرقتك السياسة التي أوصلتك إلى السجن ثم خرجت لتتابع نشاطك في تماس بين السياسة والثقافة والعمل المدني. أين يجد وائل السواح نفسه أكثر؟ ما الذي يندم عليه حين يلقي نظرة إلى الخلف، على مسار حياته؟
نعم. بدأتُ قاصًا. في الواحدة والعشرين فزت بالمركز الأول في مهرجان عكاظ في جامعة دمشق، وفي الثالثة والعشرين نشرت مجموعتي القصصيّة الأولى “لماذا مات يوسف النجار؟”. ثمّ ضحّيت بالأدب في سبيل السياسة. سحر العمل السياسي والنضال وتلك الغلالة الرومانسيّة التي كانت تغلّف الشخص الملاحق والمطلوب، الذي ينتقل من بيت لبيت ويحمل هويّة مزوّرة واسمًا غير اسمه، كلّ ذلك بدأ يشعرني بأنّني منذور لما هو أسمى من الأدب. وقال لي أبو سامر (أصلان عبد الكريم): “أنت تخليّت عن الأدنى لمصلحة الأرقى. لا يجب أن تحزن”. كنتُ قد أخبرته إنّني لم أعد أستطيع كتابة القصة والشعر أكثر. كانت آخر قصة كتبتها سنة 1978 ثمّ جفّ القلم وامتهنت الجري من مكان إلى آخر ومن رفيق إلى آخر ومن شقة إلى أخرى. أبو سامر رأى السياسةَ فوق الفن. فرحتُ كثيرا لملاحظته، وامتلكني رضى غامر. “انتقلتُ مما دون إلى ما هو خير”، كنت أكرّر لنفسي كلما حَنَنْتُ إلى الورقة والقلم أكتب فيها سطرًا أو سطرين لأخفّف وطأة الملاحقة والوحشة وهجران الحبيبة.
لكن، هذا كان وهمًا صرفًا. كنّا نعيش أوهامًا وأحلامًا جميلة، نستيقظ منها على ضربة أمنيّة تُفقدنا بعض رفاقنا، فنستشعر الحقيقة ردحًا من الزمن قبل أن نغفو من جديد لنحلم بعالم جديد خال من الكراهيّة والعنف والسجون. بل إنّنا ما بين الهزل والجدّ كنّا نوّزع المناصب بيننا، وقد منحني الرفاق حقيبة الثقافة والإعلام فابتهجت لذلك.
ومع ذلك صحوت مبكرًا. ولذلك، حين أصرّ صديقي، فرج بيرقدار، أن يخوض غمار السياسة من خلال رابطة العمل الشيوعي، حاولتُ قدر الإمكان ألّا أدخله جسم التنظيم. لم أرِدْ لفرج، وكان أحد شعرائي المفضّلين أن يتخلّى عن الشعر لمصلحة السياسة فوقفت في وجه تنظيمه. قلت له: “أنت شاعر فاكتب الشعر إذن”، وقلت له: “هنالك مئة شاب يمكن أن يوزعوا البيانات، ولكن لا يوجد سوى شاعر واحد اسمه فرج بيرقدار. واجبي أن أحمي هذا الشاعر فيك”، وقلت له: “كلّ قصيدة تكتبها خير من ألف بيان سياسي، تفيد قضية الثورة أكثر بألف مرّة.”
وحين خرج يوسف عبدلكي من السجن سنة 1980، كُلِّفت بمهمة إبلاغه باختياره عضوًا في الهيئة المركزيّة الموسّعة. وكنت ضدّ هذا الرأي، فمهمة يوسف الحقيقيّة ليست في النضال اليومي والهرب من الأمن، بل في الرسم والحفر والفن، وكان يحاول السفر إلى باريس للدراسة في مدرسة الفنون الجميلة (بوزار) هناك. ومع ذلك كان عليّ أن أنقل الرسالة له. قلت له: “معي لك رسالة من الرفاق. يريدونك في الهيئة المركزية” ثم صمتّ وأنا أنظر في عينيه، لأتأكّد من أنّه فهم الرسالة. ثمّ سألته: “وصلتك الرسالة؟” أجاب: “نعم!” فقلت: “أما رأيي الشخصي فهو ألا تلقي بالًا لهذه الرسالة وأن تكمل مشروعك في السفر والدراسة في باريس، فأنت كفنان أهمّ من عشرة مناضلين ثوريين مجموعين”، وهذا ما كان.
أما أنا فصرت في الحقيقة كالغراب الذي اجتهد ليقلّد سير الحجل فلا هو أتقنه ولا هو عاد إلى مشيته الأصلية، فخسرت الأدب ولم أحقق شيئًا في السياسة.
أبوك كان فاعلًا ثقافيًا وسياسيًا في حمص، أخوك الأكبر فراس السواح باحث ومفكر معروف على نطاق واسع، أخوك سحبان قاص وناشر وفاعل ثقافي، ابن أخيك عمرو كاتب مسرحي. سؤالي: ما الذي قدمته هذه العائلة لك؟ ما معنى أن يولد المرء أو يكون جزءًا من عائلة لها كلّ هذه الاهتمامات بالشأن العام والثقافة معًا؟ بماذا تدين لها؟ وبماذا قيدتك من جهة أخرى؟
أنا أصغر إخوتي، وكان لوالدي وإخوتي تأثير كبير عليّ. فتحت عيني وحولي كتب وجرائد ومجلات. كنت في السادسة حين كنت أذهب إلى مكتب الحملة الإعلانيّة لأبي والزعيم الحمصي الكبير، هاني السباعي، أثناء حملتهما الانتخابيّة للبرلمان. في الثامنة من عمري رأيت أبي يتنكر ويرحل عن البيت في الفجر هربًا من انقلاب البعث. وفي بيتنا مجلدات جريدته اليوميّة التي بدأ بإصدارها منذ العام 1948. تعلّمت من والدي شيئين اثنين: العربيّة والديمقراطيّة. ظلّت اللغة العربيّة غرامي الكبير، وظلت الديمقراطيّة، حتى في أكثر مراحل حياتي راديكاليّة، أيقونة مقدسة.
كان لأخي سحبان تأثير كبير عليّ في طريقة النظر إلى الأمور وعيش الحياة يومًا بيوم. وبينما كان أخي بشّار مستشاري السياسي، كان سحبان مستشاري الثقافي والأدبي. سيعلّمني سحبان كتابة القصة ويساعدني في نشر قصصي الأولى. وسأتعلّم من قصصه رشاقة العبارة وقوة الكلمة وكيف تتحول الجملة إلى نسمة تدخل روحك بدون استئذان. ساعدته ابتسامته الدائمة وضحكه العريض على تقبّل مصاعب الحياة. وساعدته شجاعته في ثلاثة حروب على فهم أنّ لأي قضية ثمنًا ينبغي التمتّع بدفعه.
أصيب سحبان في 1967 عندما ترك الجامعة ليدافع عن العاصمة. أرسله البعثيون دون تدريب ولا تغطية إلى الجبهة فأصيب في قدمه، وفي أيلول الأسود دخل الأردن ليدافع عن الفلسطينيين، وفي 1973 أصيبت دبابته ورشم كامل جسمه بوشم من الشظايا، لا يزال بعضها في عنقه حتى اليوم. ولكن سحبان ليس رجل سياسة، هو رجل الحياة: في كلّ ما يفعله ثمّة دفقة حياة. كان أول من صحبني إلى ديسكوتيك وأول من صحبني إلى خمارة فريدي وأول من عرّفني على امرأة، وكان مدخلي إلى كوكبة من الأصدقاء. عن طريقه سأتعرّف على فاتح المدرس وسعد الله ونوس وناديا خضور ومصطفى الحلاج وصخر فرزات وعائشة أرناؤوط ونزيه أبو عفش وأحمد دحبور وتوفيق الأسدي ونبيل حفار، ولكنه سيكون مدخلي لمعرفة دمشق حين جئتها في السابعة عشرة خائفًا، مرتبكًا، وتائقًا في آن معًا، فصحبني في شوارعها وحاراتها ومكتباتها ومقاهيها وباراتها. ولكن أهم من ذلك، دلّني على التقاط الروح في الأشياء؛ روح الكلمة، وروح المقهى، وروح اللوحة، وروح فنجان القهوة والجريدة والمنضدة التي تضع عليها كتابك بعد أن تنتهي من قراءته ليلًا ثم تأوي إلى النوم.
ومن أختي مهى، تعلمت القراءة للمتعة. كانت مهى تشتري روايات كوليت خوري وغادة السمان، ثم تغرق معها في عالم من السحر واللذّة والمتعة. ومنها تعلمت أنّ الرواية التي لا تشدّني من صفحاتها الأولى ليست جديرة بالقراءة.
إذن جئت من عائلة ليبراليّة بكلّ معنى الكلمة، وهي فتحت أمامي آفاق رحبة، ولم تغلق أمامي أيّ منفذ أو حارة.
خلال قراءتي لتجارب العديد من السجناء السياسيين وأنت واحد منهم، ومن خلال صداقتي لبعض منهم، لفت انتباهي كيف حوّل جيلكم سنوات السجن الطويل إلى مدرسة ومختبر ثقافي بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. حدثنا عن هذه التجربة بتفصيل (وممل إن أمكن)؟ كيف ولدت؟ ماذا فعلتم حقًا في تلك الزنازين؟ كيف تحايلتم على السجّان؟ كيف صنعتم الأدوات ومواد التعليم والمسرح و….؟
أكثر همّ عندك في السجن هو كيف تمضي ساعات نهارك. بعد فترة من الزمن تنتهي كلّ الحكايات والذكريات والنكات، ويحلّ الصمت بين الرفاق. كان علينا أن نتحايل على ذلك. كان المسرح أول ما خطر في بالنا. الفكرة بدأت، في فرع التحقيق العسكري، عندما حدّثت الرفاق مرّة عن مسرحيات شاهدتها، أو شاركت فيها أو كتبت عنها. ثم جاءت فكرة أن نقدّم عملًا مسرحيًّا، في المهجع. بدت الفكرة مجنونة بحدّ ذاتها. فأنت تريد تقديم عمل مسرحي، دون نصّ ولا ديكور ولا مكياج ولا منصّة ولا مكان للتدريب. لكن الفكرة راحت تلحّ أكثر، فاقتطعنا من المهجع، زاوية صغيرة سترناها ببطانيّة، ورحت أستحضر من الذاكرة نصًا مسرحيًّا لصديقي وأستاذي فرحان بلبل، عنوانه “الممثلون يتراشقون الحجارة”. ولا مبرّر للقول إنّنا لم نملك النص كي نتدرّب عليه (كنّا في عالم ما قبل الكتاب)، فَرِحتُ أعيد صياغة النص من ذاكرتي. توازعنا الأدوار، وحفظنا الحوار، وتدربنا على البروفات. ثم جاء دور العرض، بعد أسابيع. سيبدو ذلك الآن خاليًا من كلّ معنى ما لم أصف لك مهجعنا آنذاك.
كان المهجع عبارة عن غرفة بطول ثمانية أمتار وعرض ثلاثة. يقتطع الحمام منه أربعة أمتار مربعة، فيظل معنا عشرون مترًا مربعًا، ينحشر فيها أربعون سجينًا. إنّما، ومن هذه الأمتار العشرين اقتطعنا ثلاثة أو أربعة للتدريب وللعرض. وحين جاء موعد العرض، شعرنا برهبة كتلك التي يكنها الممثل والمخرج قبل رفع الستارة عن العرض الأول، أمام نظارة ناقدة ومتابعة. حان الوقت. كان ذلك بعد تناول العشاء، وهو على الأغلب بطاطا مسلوقة نضيف لها مما نشتريه من البهار والزيت. أزحنا البطانيّة/ الستارة وبدأ العرض. والآن أشعر بدهشة، حين أتذكر الأداء الرائع لعدد من الممثلين، الذين لن أقول إنّهم لم يشاركوا في عمل مسرحي من قبل ولكن أقول إنهم لم يروا واحدًا قط. كان الديكور عبارة عن سطول بلاستيكيّة وبطانيّات وعلب حلاوة فارغة. وكانت الملابس من الشراشف وقطع القماش الأخرى التي تأتينا من الزيارة. انتهى العرض الذي اضطررنا إلى إيقافه كلّما اقترب السجّان من نافذة المهجع. وحيّانا الجمهور بتصفيق حقيقي. كنت أتابع وجوه البعض الذين كانوا يتابعون في البدء بابتسامة ساخرة على وجوههم وأرقب كيف اختفت السخريّة وتحولت الابتسامة إلى اهتمام واستغراق حقيقيين.
في تدمر وصيدنايا نمت التجربة أكثر بوجود فنانين حقيقيين رفدوا تجربتنا المتواضعة. كان بدر زكريا مهندسًا زراعيًّا، ولكنه يمتلك روحا فنيّة عالية وتجربة من عمله في المسرح الجامعي. عملت معه في تحويل قصة “اللجنة” لصنع الله إبراهيم إلى مسرحيّة. ثم جاء غسان الجباعي فنقل المسرح إلى مستويات أعلى بخبرته الأكاديميّة وثقافته العالية.
مع المسرح كان لدينا أمسياتنا الشعرية والقصصّية وندواتنا السياسيّة، وصحافتنا أيضًا. في السجن كتبتُ مجموعتي القصصيّة “الموت عند المساء” وروايتي “قالت إيمان”. وفي السجن ولد شعراء لم يكونوا يعرفون أنفسهم: محمد عيسى مثلًا ومنصور منصور، تمثيلًا لا حصرًا.
سؤالي الأخير: أنت وكثير من أبناء جيلك، وبخاصة رفاقك في حزب العمل، بدأتم أعضاء في أحزاب سياسيّة، تسعى وتعمل على توسيع مساحة العمل السياسي في البلد. ولكن اليوم انتهيتم خارج الأحزاب وخارج العمل السياسي بالمعنى المباشر للكلمة، لماذا؟ وكيف يمكن أن نعيد بناء السياسة التي هدمتها الدكتاتوريّة في سوريا إذا كان فرسانها الأوائل قد هجروها؟ أقول هذا، وأنا ألاحظ أنّنا بعد عشر سنوات من الثورة، لا نملك حزبًا سياسيًّا أو جسمًا يمكن أن يشكل لحظة فارقة في الحاضر السوري أو يقدّم أملًا بأنّ القطار السوري يمكن أن يقلع يومًا؟
لعلّ عصر الحزب بمفهومه القديم كتنظيمات قاعديّة وكوادر وسطى وقيادات واشتراكات شهريّة وجريدة قد انتهى. ينبغي البحث عن أطر بديلة. عن حزب من نوع جديد، مفتوح، لا يعرف “المركزيّة الديمقراطيّة” سيئة الذكر.
هل تعرف كيف تصبح عضوًا في حزب أمريكي؟ تقول: “أنا ديمقراطي”، فتصبح عضوًا في الحزب الديمقراطي. ليس لأحد سلطة منعك أو طردك.
ولا أقصد تكرار التجربة في سوريا، بل أقصد ضرورة البحث عن أطر سياسيّة جديدة مرنة ومتحركة وتستجيب للتطورات السريعة ولها خبرة في التقنيات المذهلة الحديثة.
ولكن دعني أقول لك شيئًا. روح الكفاح لا تتوقف. لم يزل هنالك تنظيم جديد اسمه حزب العمل الشيوعي، ولكن الأهم أنّ هنالك فكرة اسمها حزب العمل الشيوعي، وتراها مبثوثة في كلّ أطياف المعارضة السورية، فبعضها في الائتلاف وبعضها في هيئة التنسيق، وشكّل بعضها تيار مواطنة، وآخرون تيار المواطنة المتساويّة، وأسس بعضهم مجموعة نواة، بينما نحا بعضهم منحى أكثر قربًا للنظام، لمخاوف قد تكون شخصيّة أو –للأسف– طائفيّة.
ما قصدت قوله أنّ الثقافة السياسيّة أكثر أهميّة من التنظيم السياسي. الثقافة السياسيّة تعطي تنظيمات سياسيّة. التنظيم يخنق الثقافة.
(حكاية ما انحكت)