أول فعل قمت به حين وصلت مدينة دمشق، كان شراء قبعة مبوّزة من الأمام وحقيبة كتف وغليونًا، ومن ثمّ الذهاب إلى مقهى الهافانا. جلستُ هناك وأنا أفرش أمامي على الطاولة بعض الكتب ومجموعة أوراق بيضاء أدعي الكتابة عليها، في حين أنّ عينيّ، في حقيقة الأمر، كانتا تسترقان النظر كلّ الوقت إلى رواد المقهى وإلى الناس المارين من أمام زجاجه، لأعرف إن كان هذا “المثقف الجديد” قد لفت انتباههم.
حادثة مقهى الهافانا
أتلفتُ يمينًا نحو طاولة مظفر النواب، ويسارًا نحو طاولة أخرى يجلس عليها رجل يبدو “مثقفًا جدًا”، لأنّه “مثلي” لديه، حقيبة كتف وكتاب ملقى على الطاولة أمامه، لكنّه يدخن سيجارة عاديّة بدلًا من الغليون، ويقرأ صحيفة عوضًا عن الكتابة.
لمّا لم يعرني أحدهما انتباهًا، عادت عينيّ تراقبان المارين في الشارع برجاء عميق، علّ أحدهم يلاحظني. وحين عادتا بالخيبة إلى داخل المقهى بحثًا عمّا ألفت انتباهه، سمعت طرقًا على زجاج المقهى، كما لو أنّ ليلة القدر قد حانت. كان أحد أبناء قريتي يرفع يده سلامًا. تمسّكتُ به برجاء أعمى، مدركًا أنّه سيكون رسولًا مُبشرًا بي إن تمكنت من جعله يجلس معي هنا.
دعوته إلى الدخول مصرّا على جلوسه إلى طاولتي رغم شعوره بالاغتراب وعدم الراحة في هذا المقهى. لم يكن أهل القرى يومًا من روّاد المقاهي، فالعاصمة بالنسبة لهم مجرّد مكان عمل واسترزاق، يعيشون في ظلالها وعلى أطرافها، وقد يعيشون فيها سنوات طويلة دون أن تطأ أقدامهم مقهىً أو مركزًا ثقافيًّا ما.
كعادة أهل القرى في إكرام الضيف، طلبتُ له شايًا ونرجيلة على حسابي، ثمّ بدأتُ أكلّمه و”أتفاصح” عليه (باللغة العربية الفصحى طبعًا) وأحدثه في شؤون لم يسمع بها من قبل، متقصدًّا استخدام كلّ المصطلحات العصيّة على فهمه، تلك المصطلحات صعبة النطق، والتي تؤكد أنّي “مثقفٌ لا يُشق له غبار”، مصطلحات من قبيل “البروليتاريا”، “الميتافيزيقيا”، “الابستمولوجيا”، “ما بعد الحداثة”… وحين انتهيت من محاضرتي التي أضجرته، لم أدعه يهرب بل، ولدعم فكرة أنّي “مثقفٌ حق” ولست من أولئك الذين يدعون الثقافة، تابعت كلامي وقلت له مشيرًا إلى طاولة قريبة، هذا الشاعر الكبير مظفر النواب، واخترعت اسمًا ومهنة لذاك الذي يحمل صحيفة، قائلًا له: “وهذا المثقف الكبير فلان، له عدّة كتب، وذاك…” ثم أنهيت حديثي، متخذًا هيئة المثقفين حين يتكلمون وهم يشيرون بأقلامهم وأيديهم، ويشعلون الغليون المنطفئ كلّ دقيقة، منهيًا حديثي بالقول: “وأنا آتي إلى هنا لأكتب، أحبّ الكتابة في المقاهي. لا أستطيع الكتابة إلّا هنا. هل تعرف أنّ لكلّ كاتب ومثقف طقس خاص بالكتابة؟ أنا طقسي هنا، مع الغليون وأصوات الناس. أشعر أنّ الوحي يزورني هنا فقط”.
وحين نطقت كلمة الوحي، قال بشكل لا إرادي ودون نيّة في إحراجي: “أعوذ بالله”. شرحتُ له الأمر: “هذا مجاز. كلمة الوحي تستخدم هنا كمجاز، هي كلمة يستخدمها المثقفون في هذا السياق، ولا تعني تعدّيًا على الخالق جلّ جلاله”.
حين قام ليودّعني، شعرتُ بأنه سلّم عليّ بطريقة مختلفة عن سلامه عند قدومه. ولم لا؟ فهو الآن يسلّم عليّ كما يجب أن يسلّم “الناس” على “المثقفين”، وأنا بدوري كنت سعيدًا: ها قد نلت اعترافًا، ها قد أصبحت مثقفًا!
مرافقة المثقَّف الأمنيّة
اليوم، إذ أستعيد ما سبق بخجل، أتساءل: لم فعلتُ ذلك؟ ما الذي كان يحكم وعيي آنذاك حول مفهوم المثقف؟ وكيف تشكّلت هذه الرؤية في ذهني عن صورة المثقف، وهي صورة مختلفة كليًّا عن صورة المثقف الحقيقيّة.
أعصر ذهني في محاولة للفهم ومعرفة كيفية تشكل هذه الصورة في ذهني وفي وعيي الغض آنذاك، فلا أعثر إلا على أفكار مُجزّأة تأتي كضربات فرشاة سريعة. أتذكر أنّي كنتُ أسمع وأنا في قريتي، ممن هم أكبر سنًّا، بعض الكلمات عن مقهى الهافانا وجلوس المثقفين فيه، خاصة “مظفر النواب” المعروف للجميع بسبب “كاسيتات” مهرّبة سُجلت قصائده عليها.
ربما، تشكّل الأمر أيضًا من خلال ما قرأته في الروايات وشاهدته في المسلسلات عن صورة نمطيّة للمثقف. لكن هل هذا يفسر الأمر؟ لا أعتقد، خاصة حين أتذكر مشهدًا جرى معي في أيامي الأولى في دمشق. يومها، قرأت في الصحيفة عن وجود محاضرة للدكتور فيصل درّاج (كنتُ قد سمعتُ باسمه من أحد المثقفين في قريتي)، ضمن فعاليات أسبوع دمشق الفلسفي على ما أعتقد. كان أكثر ما أربكني وشكّل صدمة لي آنذاك، عدم وجود مرافقة أمنيّة حول فيصل ومن معه على المنصة، إذ كان اعتقادي آنذاك، يقول أنّ لكلّ مثقف مرافقة أمنيّة خاصة به أو حرس شخصي مرافقون له، مثله مثل السياسيين في هذا الأمر.
زاد استغرابي أكثر حين اقترب الناس من فيصل درّاج بعد انتهاء المحاضرة وبدأوا يسألونه عنها. “يا إلهي يمكن الاقتراب من المثقفين والحديث معهم أيضًا” قلتُ لنفسي، ثمّ تشجّعت واقتربت بدوري منه، وسألته إن كان يملك نسخة أخرى من المحاضرة، ففتش بين أوراقه بكلّ حب، ومنحني واحدة ما زلت أحتفظ بها بين أوراقي في قريتي البعيدة، والتي لم أزرها منذ عشرة أعوام، ولا أعتقد بأنّني سأتمكن من زيارتها في مستقبل قريب أو بعيد.
صورة المثقَّف
أمّا كيف تشكلت لديّ هذه الصورة عن المثقف وأنا في ذاك العمر، فلا أعرف حتى الآن. أبسبب كون المثقف صاحب سلطة، وإن كانت سلطة معنويّة؟ ألِأنّ الناس تحبُّ المثقفين؟ ألأنّهم مشاهير؟ ألأنّهم يُصدرون كتبًا ويكتبون في الصحف التي كان الناس يصدّقونها آنذاك؟
لا أعرف، وربما لم أفكر بالجواب قبل اليوم، وذلك لأنّ تلك الصورة الأولى المُتشكّلة عن المثقف لديّ انهارت لاحقًا، بفعل الاحتكاك اليومي بالمثقفين، حيث كانت “النميمة” جزءًا من هذا العالم الذي سرعان ما نفرتُ منه، وبدأتُ على إثرها رحلة عكسيّة مضادة، متخليًّا خلالها عن غليوني “الثقافي” وحقيبتي وطبيعة لباسي “المثقفاتي”، بل أبعد من ذلك، بدأتُ، وبشكل لا واعٍ، تحاشي الظهور بمظهر المثقف المُتعارف عليه (هل للمثقف أو المبدع مظهر ما أساسًا؟ ما هو؟ من رسّخه؟) إلى درجة أنّني أعمل جاهدًا اليوم لأن تكون حياتي الشخصيّة منفصلة تمامًا عن عوالم الثقافة، وأجد نفسي أنفر تلقائيًا من الكليشيهات الثقافيّة الجاهزة والموّحدة، وكأنّ هناك حزبًا ما عمّمها على أفراده، مفضّلًا عليها صحبة الأصدقاء ولعب الورق أحيانًا. وإن كان هناك من أصدقاء لي ضمن الوسط الثقافي، فهم أصدقاء لذواتهم وشخصيّاتهم التي أحبُّها وليس لأنّهم “مثقفين”.
أمران لم أتخلَ عنهما بعد من إرثي الثقافي هذا، الجلوس في المقهى برفقة الكتب والحديث بالفصحى دون أن أنتبه لنفسي. كثيرًا ما تنبّهني شريكة حياتي بعد عودتنا من أحد الجلسات، مؤنبة: لماذا تتحدث مع الناس العاديين كما لو أنّك مثقف، وتستخدم كلمات ومصطلحات لا يفهمونها؟!
تخيّلوا كلّ هذه المقدمة والنضال والمقاومة للتخلص من هذا الإرث الثقافي لتعود وتقول لي: لماذا تتحدث مثل المثقفين؟ ولكن: لم لا؟ ألستُ “مثقفًا” في نهاية الأمر؟!
(حكاية ما انحكت)