لا توفر الحرب الهمجية، بصواريخها وطائرتها وقذائفها، أي شيء في الحياة، لا تترك شيئاً من دون خراب أو موت أو دم، تفتك بالبشر والحجر والحياة الهادئة، تفتك بالأفراح والابتسامات وسياق الحياة اليومية، ويتحول المشهد، قبل وبعد، قبل الصاروخ وبعده…
في الحرب الأخيرة على الفلسطينيين، تقصّد الاسرائيليون الاغتيال المعلن للأبراج السكنية القليلة وسط كم من العشوائيات والفوضى… كان التدمير على الطريقة الهوليوودية، لكنه كان واقعياً وليس متخيلاً، نرى الصور ونراقب ببطء، الدمار الممنهج، عبر وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة… كأن آلة التدمير الجوية تتسلى وتتلذذ في صناعة الخراب وتغيير المشهد. فاغتيال الأبراج، في أقنعته المعلنة، اغتيال للمدينة طالما أنّ قادة “حماس” في الخفاء، ولم تنج المكتبات أيضاً من الاغتيال. فكُتب في صفحة مكتبة سمير منصور: “ذات صباح مشمس التقطت هذه الصور للمكتبة؛ وهذا صباح مشمس جديد باتت فيه المكتبة تحت الأنقاض، المكتبة التي كانت قِبلة القراء ووجهتهم، تلوح بيدها لكل مار من شارع الثلاثيني وصولاً إلى الجامعات، صوت القصف كان مدوياً، لكن الكتب وهي تتهاوى كانت أعلى صوتاً”…
تلك الكتب التي كانت مركونة على الأرفف، وفي طياتها ثقافات وحكايات وأفكار مختلفة متنوعة من العالم، من رواية الخلود لكونديرا، إلى رواية ما تبقى لكم لغسان كنفاني،.. أتت الطائرة لتفتك بها وتحول المشهد الحضري إلى ركام… انقلبت الصورة، تحطمت الابتسامة… “المكتبة التي كانت تبتسم للمارة والقراء ويحبها الجميع، أصبحت أثراً بعد عين”، حسب تعبير القائمين عليها.
ويعود تاريخ المكتبة إلى تسعينات القرن الماضي، وقد شكلت منبراً ثقافياً، ومتنفساً علمياً طوال ثلاثة عقود في قطاع غزة، كما ساهمت بشكل بارز في التعريف بالثقافة الفلسطينية، بعدما نشرت لأكثر من 150 كاتب فلسطيني، وشاركت بمؤلفاتهم في معارض عربية ودولية. ركز سمير منصور على حلمه بإنشاء “مكتبة ضخمة توفر الكتب القيمة والموسوعات العلمية والثقافية لأبناء قطاع غزة، وبمرور السنين كان الحلم يكبر، فأنشأ دار نشر تتبنى إصدار شهادة ميلاد لمؤلفات الكتاب في جميع المجالات، حتى جاء الاحتلال الإسرائيلي ودمر”… ليست المسألة في الحياة أنه كان هناك مبنى وقصفته الطائرات، وغداً نشيّد مكانه، فالطائرات لا تقتل الأمكنة فحسب. كتبت صفحة المكتبة: “ماذا فقدنا بفقد المكتبة؟ فقدنا الذكريات والمواقف السعيدة والمؤثرة التي لم يكن يومنا يخلو منها؛ فقدنا الحكايات والقصص التي كانت تأويها الزوايا، همسات وأمنيات الأطفال الذين كانوا يأتون لزيارتنا متلهفين لحمل كل ما تقع عليه عيونهم البريئة، فقدنا الرائحة المعتقة للورق والأغلفة السميكة القديمة التي يبحث عنها قراء بعينهم! رائحة القهوة التي كانت تعد بشكل يومي والبخور كي نستقبلكم، فقدنا وجوه الكتب، مئات الآلاف من الكتب القيمة التي لا تعوض، والتي لم يكن إدخالها إلى غزة المحاصرة سهلاً، فقدنا وقع خطوات المارة ذهاباً وإياباً، من الطلاب والكبار والصغار، فقدنا الكثير أيها الأصدقاء!”.
وتحوّل اغتيال المكتبة إلى قضية، صورة الكتب القتيلة كانت كافية لاستدرار الرأي العام الثقافي. ففي حي الشيخ جراح، أنشأوا مكتبة صغيرة أطلقوا عليها اسم “مكتبة سمير منصور”، تضامناً، واقترح الكاتب السوري الزميل علي سفر، على أصحاب مكتبة سمير منصور الغزاوية، أن يعرضوا الكتب التي أصابها الضرر في مزاد في الانترنت، بحيث يتم توثيق الكتاب وعليه آثار القصف الهمجي، كي تتوزع الكتب حول العالم مع الإشارة إلى ما جرى لها. وأعلن الروائي العراقي علي بدر، أنه “بعد هدم مكتبة سمير منصور في غزة الصامدة، من قبل العدوان الإسرائيلي، أهدي مكتبتي الشخصية لها من أجل إعادتها كما كانت… مكتبة عامرة بكتبها وقرائها. وذكرت بعض المعلومات أن موقع “GoFundMe” جمع مبلغ 70 ألف دولار أميركي لإعادة بناء المكتبة.
“كانت المكتبة روحي” قال صاحب المكتبة. و”عندما تفقد مكانًا كهذا، فإنه يكسر قلبك”، قالت احدى الطالبات…
ومع ان الحرب تفتك بكل شيء، لكنها في كل مرة، تتكرر، كأن لا محل للعقل وسط صراع الهويات.
*المدن