محمد تركي الربيعو: «مدن وخلفاء»: اختراع المدينة الإسلامية

0

لاحظت المؤرخة والعالمة الأمريكية جانيت أبو لغد، أنه على الرغم من وجود تنوع على صعيد التاريخ العمراني للمدن الإسلامية، الا أن هناك خطاطة أو رؤية نمطية بقيت تحكم نظرة قسم كبير من الباحثين والمؤرخين لشكل هذه المدن وتصميمها. ووفقا للعديد من القراءات فإن المدينة الإسلامية التقليدية، هي المدينة التي يقع في مركزها المسجد الجامع، الذي تقام فيه صلاة الجمعة، والقصر، والسوق الممتد من بوابة رئيسية الى أخرى، وهي مدينة تحتوي أيضا على قلعة أو موقع دفاعي يسكن فيها بعض الولاة، وتكون الحارات والأحياء السكنية موجهة نحو الداخل، ويتم تخصيص كل منها لمجموعة معينة من السكان، حسب تصنيف إثني أو عرقي أو ديني.
وفي كتابه المترجم للعربية «مدن وخلفاء» ترجمة عصام الشربيني، دار المرايا للثقافة، يرى المؤرخ الحضري نزار الصياد أن هذا الوصف غير ملائم، لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن وطبيعة وتغيرات وظائف النمو العمراني. ولعل ما يميز طرح الصياد عن عدد من الدراسات، هو انه سيعتمد على عدد من الأدبيات التي اشتغلت على تصميم المدن كمفهوم، وأشير بالأخص إلى رؤية كيفن ليش حول صورة المدينة، وفي هذا التحليل سينظر إلى العلاقة بين الكتل الصلبة والفراغات، حيث يتم تصنيف الكتل الصلبة إلى نوعين: المؤسسات العامة المكونة من مبانٍ مركزية في نسيج المدن، وتصبح بؤرا بصرية عندما تشغل مكانا بارزا في الفراغ، والثاني الكتل الصلبة التي تكون الأحياء والمساكن، بالإضافة إلى تحليل الشبكة الأساسية للشوارع والساحات (بؤر فراغية) كما يعتمد تعريفا للمدينة بوصفها تمثل تجمعا ذا كثافة سكان عالية أكثر من المناطق الريفية المحيطة بها وسكانها من العاملين في الإدارة والتجارة، وهي كيان يمتلك خصائص مادية عن المناطق الزراعية المجاورة، التي تعتمد عليها لتوفير الغذاء والاحتياجات الأخرى.

ولادة الصورة النمطية

يحاول الصياد في النصف الأول من كتابه تقريبا، تتبع الرؤى التي ساهمت في تشكيل صورة نمطية عن المدينة العربية الإسلامية. فقد قدم وليم مارسيز للمرة الأول في مقال منشور عام 1928 مفاهيم تم استيعابها من قبل العديد من الباحثين في أوقات لاحقة. وفي هذا المقال أشار إلى أن محمد نبي الإسلام وخلفاءه الأوائل كانوا أعضاء في البورجوازية الحضرية في شبه الجزيرة العربية. كما أشار إلى أن صلاة الجمعة في المسجد الجامع كانت انعكاسا لضرورة التجمع الحضري اللازم لاستقرار الدين الإسلامي، وقد لاحظت جانيت أبو لغد أن هذه الأوصاف تخص المغرب العربي ولا يمكن افتراض أنها تنطبق على مناطق أخرى. وجاء جان سوفاجيه، الذي درس السوق الإسلامي في حلب ودمشق، وحاول القول إن المسجد احتل مكان الكنيسة أو المعبد السابق، ثم شرع فون جرونيبام في وصف المدينة الإسلامية النموذجية، من خلال الحديث عن عنصرين رئيسيين: المسجد الجامع والسوق. والمسجد هو المركز الثقافي والديني للمدينة، وهو المكان الذي يستمع فيه السكان إلى تصريحات حكامهم، وعلى أطرافها تقريبا توضع الصناعات التي تتطلب مساحة كبيرة. وربما لم يساهم أي مؤرخ بمفرده في تعزيز هذه الصورة النمطية بقدر ما ساهم ألبرت حوراني، الذي انطلق من نظرية ماكس فيير حول المدينة، ليتحدث عن المدينة الإسلامية بوصفها مكونة من القلعة والحي الملكي، والمسجد، والأسواق المركزية والخانات.

ماسينيون وقطع طريق فيبر

وعلى الرغم من أن العلماء والمؤرخين حاولوا القطعية مع رؤية فيبر، لكن الملاحظ ان هذه الرؤية ستبقى مؤثرة، حيث وجد فيبر أن هناك خمس علامات مميزة للمدينة الأوروبية في العصور الوسطى، وهي وجود أسوار تفصلها عن البادية، وأسواق عامرة غنية، ونظام قانوني وإداري، وأشكال عمرانية مميزة للتجمعات الحضرية، والاستقلال الذاتي الجزئي. ولأن المدينة الإسلامية كانت تفتقر إلى بعض هذه العلامات فقد أكد فيبر أنها لا تعتبر مدينة، لكن هذه الرؤية ستشهد موجة انتقادات واسعة من قبل عدد من المستشرقين وأهمهم لويس ماسينيون الذي ركز على كلمة حرفة، للقول إن ما ذكره فيبر حول أن التجمعات السكنية في الإسلام لم تكن مدنا لأنها تفتقر إلى نقابات مهنية غير دقيق، حيث وجد أن الحرفيين كانوا يشكلون تعاونا مهنيا على غرار النقابات، ما جعلها مؤسسة حضرية مهيمنة على حياة المدينة الإسلامية. وقد بلغ هذا الاتجاه التعديلي ذروته مع إيرا لابيدوس، الذي بدلا من اختبار الافتراض القائل إن المدينة لم تكن موجودة بالكامل في الشرق الإسلامي، أعاد طرح السؤال حول القوى التي أسست المدن الإسلامية ككيانات حضرية فاعلة في الشرق الأوسط، وفي سياق إجابته، رأى لابيدوس أن هؤلاء الفاعلين يتشكلون من النخب العسكرية وعلماء الدين والشخصيات المحلية والعامة، وطوائف التجار والحرفيين.

معسكرات تتحول إلى مدن

خلق نجاح الغزو العربي الإسلامي من الجزيرة العربية الحاجة إلى إنشاء معسكرات ومراكز دفاعية تحمي الإمبراطورية الإسلامية الجديدة. ومن المتفق عليه عموما أن مدن الحاميات العسكرية الجديدة، تم إنشاؤها للسيطرة على السكان غير العرب في المناطق التي فتحها وللدفاع عن الجزيرة العربية. ويرى الصياد، أن مدن الحاميات العسكرية العربية انقسمت إلى نوعين رئيسيين. الأول مثل الكوفة في العراق والفسطاط في مصر والقيروان في تونس، وكانت في البداية مخيمات جماعية تطورت الى مستوطنات مؤقتة، نمت مع الوقت وتحولت إلى مدن دائمة بعد تشجيع الهجرة العربية إليها، والثاني يتمثل في المدن القائمة التي دخلها المسلمون، وساهموا لاحقا في تجديد فضاءاتها الحضرية. وفي سياق النوع الأول، يدرس الصياد بداية تشكل مدينة البصرة، التي عمل أبو موسى الأشعري على تنظيمها حضريا، من خلال سلسلة من القرارات المتعلقة باستعمالات الأراضي والاستخدامات الوظيفية للمدينة، وقسمها إلى خمسة أجزاء رئيسية، حيث أعطى لكل قبيلة منطقة يمكن أن يبنوا فيها، ومن الواضح أن هذا النموذج التخطيطي لم يكن متأثرا بأي مبادئ إسلامية محددة، أو أي أيديولوجية تخطيط معينة. على سبيل المثال نجد المراجع التاريخية تشير إلى الفراغات التي تفصل خطط القبائل عن بعضها على أنها فواصل وليست طرقا أو شوارع لتسهيل الحركة أو المرور، لكن انتهى الأمر إلى أنها أصبحت الطرق الرئيسية في البصرة.
وفي الكوفة نرى أن هناك شكلا آخر للتشكل، حيث تم تشكيل المسجد كأول بناء، ثم تبع ذلك تخطيط مساحة كبيرة على شكل مربع حول المسجد، وقام سعد بن أبي وقاص بوضع علامات على الأرض تحدد داره أو مكان إقامته. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ هنا أن هذا السكن الذي عرف في البداية باسم دار سعد أصبح في ما بعد دار الإمارة.

الاستيلاء على دمشق

وفي دمشق نرى أن العرب اتبعوا سياسات مغايرة، ويفسر الصياد هذا السبب في كون معظم البلدات السورية تم الاستيلاء عليها سلميا، نتيجة للمعاهدات بدلا من الحروب، فلم يشعر العرب بالحاجة إلى عزل أنفسهم عن السكان المحليين الذين لم يشاركوا في القتال ضدهم. ولم تحدث سيطرتهم في البداية أي تغييرات في حياة مدينة دمشق، ولم يسكنوا في منطقة خاصة بهم، ولعل أهم قصة في التحول العربي لدمشق هي قصة مسجدها، ويؤكد ابن جبير أن المسلمين عند دخولهم، قسموا الكنيسة إلى قسمين: القسم الشرقي المفتوح، الذي خصص للمسلمين بعد أن استولوا عليه عند دخول قوات خالد بن الوليد إلى المدينة بالقوة من البوابة الشرقية، بينما ظل القسم الغربي من الكنيسة في أيدي المسيحيين. وهنا يرى الصياد أن دمشق تمثل دليلا على أن العرب الأوائل، خاصة في حالة المدن التي كانت قائمة لم يكونوا عازمين على خلق صورة عمرانية، أو معمارية جديدة للأماكن التي شغلوها. وعلى عكس البصرة والكوفة كان العرب في دمشق عازمين على تبني الكثير مما كان موجودا بالفعل، وتكييف أنفسهم مع بيئتهم الجديدة، مع ذلك يبدو أن هدم الكنيسة لاحقا في زمن الوليد بن عبد الملك، كان بمثابة نهاية العصر المسيحي، وبداية عصرها الإسلامي.
أما في بغداد فقد قرر المنصور بناء المدينة على شكل دائري وجعلها مسورة، ولها أربع بوابات رئيسية، لكل منها شارع مقوس يربطها بالرحبة، وفي كل ربع خصص منطقة للمحلات والأسواق. وهناك من فسّر هذا الشكل الدائري كونه يعكس تأثرا بالنظام الكوني مشتقا من تصورات فارسية وهندية، بينما يرى الصياد أن التفسير الأرجح لاستعمال الشكل الدائري هو أن المنصور اتبع ببساطة نهج الإمبراطورية الساسانية القديمة في بناء المعسكرات، أو معسكرات الجنود وفقا للشكل الدائري.
وفي القاهرة، نرى أن المدينة قامت على فكرة الحارات المحيطة بالقصر، وكانت عشرين حارة في بدايتها، كل واحدة منها مخصصة لقبيلة من القبائل التي شكلت الجيش الفاطمي، ويبدو أن المدينة في بدايتها لم تكن تحتوي على أي أسواق رئيسية (خلافا للنظرية النمطية) بل على أسواق صغيرة لسكان الحارات.
ويخلص الصياد من خلال هذه المقارنات في بداية تشكيل المدن بعد دخول المسلمين، إلى أن التفاعل بين المجموعات والقبائل التي كونت المجتمع الحضري الإسلامي، هو العامل الرئيسي الذي شكل المدينة ، وأنه على الرغم من أن هذه المدن ضمت أسواقا وجوامع ، لكنها أيضا خضعت لرؤية من أسسوها وحكموها، وهو ما يعني ضرورة النظر إلى شكل وبدايات المدن العرب الإسلامية من خلال إعطاء الفاعلين دورا في تصميمها ، بدلا من فرض خطاطة ثابتة على كل التاريخ الطويل للعالم الإسلامي وعمارته.

“القدس العربي”