محمد تركي الربيعو: المذكرات والحروب: هل من المهم قراءة وكتابة الذكريات؟

0

يحسب للربيع العربي، أو لنقل للأجواء التي تلت ما حدث في المنطقة بعد عام 2010، أن هذه الفترة ترافقت مع نمو أشكال وأجناس أدبية على حساب أشكال أخرى من النصوص، ولعل نصوص السير الذاتية والمذكرات تأتي في مقدمة النصوص الصاعدة مقارنة بفترة ما قبل 2010. فإذا استثنينا النص الروائي، الذي احتل المشهد السردي العربي في السنوات الأخيرة، لدرجة دفع بالباحثين في الفلسفة وعلم الاجتماع إلى التجريب في هذا العالم، ربما لأن هناك تلهفا في هذه الفترة القلقة إلى السرد، والعثور على أشخاص وتجارب في الروايات تشبه تجاربنا، في مقابل غيابهم عن النصوص المجردة، ولا شك في أن هناك أسبابا أخرى لسنا بوارد الحديث عنها. لكن بالعودة للمذكرات وكتابة السيرة، فإن الملاحظ إضافة إلى ازدياد انتشار النصوص التي تتناول الذكريات والسير، إيلاء كثير من دور النشر العربية مكانة لهذا النوع من النصوص (دار الريشة والشروق وكتب خان في مصر، دار جداول في السعودية، المركز العربي للأبحاث في الدوحة) ما أدى الى حدوث منعطف جديد في عالم السيرة الذاتية العربية، ومع هذا التحول يمكن القول إن الساحة باتت مهيأة للسؤال حول هذه النصوص، ومدى أهميتها، وإلى أي حد قادرة اليوم على تقديم صورة أخرى عن الماضي؟ أو اعتمادها كمدخل لفهم الماضي؟
ولعل فتح الطريق أمام الإجابة عن هذه الأسئلة عربيا ما يزال في بداياته، فالكتب التي تتناول العلاقة بين السيرة والمذكرات وكتابة التاريخ قليلة، ولذلك يشكل كتاب أستاذ الأدب جون لويس جانال «كتابة المذكرات الشخصية في القرن العشرين: بعث بعد اندثار» ترجمه عن الفرنسية سونيا نجا، المركز القومي للترجمة، إضافة مهمة في هذا السياق. يحاول الباحث الفرنسي في كتابه القول إننا نعيش زمن عودة المذكرات وفعل التذكر. فخلال الخمسينيات والستينيات بدا أن العلوم الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافيا تزيح نصوص المذكرات، باعتبارها البئر الجديدة للمعلومات، ولذلك أخذت شيئا فشيئا تغيب الذكريات ونصوصها عن الأبحاث والكتب، وغدت بمثابة العملة الرديئة، لكن هذا المشهد سيتغير، وسيغدو فعل التذكر كما يرى المؤلف جانال جزءا من عالمنا المعاصر القلق، ولعل ما يدعم رؤية جانال، هو تصدر حقل الذكريات والسير قائمة مبيعات الكتب في المكتبات الأوروبية والأمريكية، اذ يلاحظ أن هناك إقبالا كبيرا على هذا النوع من النصوص.

ولتوضيح هذا الصعود للذاكرة، سيقرر المؤلف دراسة أهم النصوص والمراحل التاريخية الفرنسية التي شكلت منعطفا على صعيد عودة الاهتمام بكتابة الذكريات، وقد تبدو رحلة البحث هذه معقدة وبعيدة أحيانا بمسمياتها وعناوينها على القارئ العربي، لكن ذلك لا يعني أنه سرعان ما سيكتشف أيضا أن هناك تطابقاً أحيانا بين بعض السياقات التي ساهمت في صعود عالم الذكريات في التجربة الفرنسية، والظروف التي نعيشها الآن، وبالأخص الفصول الخاصة بالحرب العالمية الثانية، ففي هذه الفصول سنلاحظ أن الحرب لعبت دورا في ظهور وعودة الاهتمام بالذكريات، وهي ظروف شبيهة بمشهد انفجار نصوص الذاكرة والسيرة الذاتية اليوم في عالمنا العربي، في ظل الحروب المستمرة منذ عقد تقريبا. فقد شكلت هزيمة وإقامة حكومة فيشي إيقاعا مأساويا لتاريخ الأمة. وعلى مدى بضع سنوات اختلطت ذكريات كل فرد فرنسي بشكل وثيق مع الذاكرة القومية، في صالح انقلاب كامل للوضع، الذي رأى فيه كل الفرنسيين فجأة أنفسهم معرضون لتعسف الأعداء. وهنا سيشهد عالم المذكرات منعطفا شبيها ربما بما نعيشه اليوم على صعيد ظهور المذكرات بُعيد الربيع العربي. إذ سيلجأ الفرنسيون إلى التذكر في محاولة لفهم وبناء جماعة وروابط أخرى، فلم يتبق لهم سوى الماضي، وهذا ما نراه مع جان بول سارتر الذي ملأ مفكراته في محبسه، وسيمون دي بوفوار، التي بدأت في كتابة يومياتها اعتبارا من 1939، في حين مارس بيير ايمانويل السيرة الذاتية الروحانية في مؤلفه «من هو هذا الرجل؟» وهكذا ظهرت نصوص السيرة والمذكرات لتأخذ بعدا أخلاقيا وسياسيا.

هكذا سيرى كتاب كثر أنهم مكلفون بمهمة إنسانية، وأن هذه المهمة تتجسد في كتابة مذكرات( أضحت شرعية بشكل واضح) نتيجة الظروف التاريخية، فمن خلال المذكرات حاول البعض إعادة قراءة الأحداث التي كانوا شهودا عليها في لحظة مأساوية من التاريخ القومي.
من بين الصور التي يلتقطها المؤلف أيضا على صعيد مشهد الحرب والذكريات، ظهور شبان في سن الثلاثين ممن قرروا كتابة مذكراتهم، وهو أمر قد لا يعد مألوفا إلى يومنا هذا، فالمذكرات عادة ما تركت للكبار في السن، بينما نرى روبير برازيلاك في كتابه «فترة ما قبل الحرب الخاصة بنا» يقرر خوض تدوين الذاكرة، لكن ليس فقط لالتقاط ما بقي من صور الماضي أيضا، بل أيضا للسؤال عن المستقبل القلق. ومع هؤلاء الشبان، اكتسب معنى التذكر بعداَ آخر، فمن خلال الاحتفاظ بعامل الزمن، كان هذا الجيل يوجه نقدا لاذعا للماضي هذه المرة، لكن هذا النقد دفعه في المقابل إلى بناء صورة قومية فاشية، وإلى كل أشكال الحقد على اليهود وتحميلهم أسباب الهزيمة، وربما هذا المشهد يذكرنا بنصوص وذكريات شبان كثر حاولوا بعد الربيع العربي القول مثلا في سوريا، إن الانقسامات الطائفية والإثنية هي قدر السوريين منذ قرون (خلافا للحدث التاريخي) وأن لا سبيل سوى بتجريم الآخر نصيا.

لكن ماذا عن صدقية المذكرات:

يحاول المؤلف الدفاع عن الذكريات كونها نصوصا معرفية أيضا، وليست نصوصا تعكس تجارب ذاتية وحسب، ولذلك يعقد في آخر الكتاب مقارنات ذكية بين كاتب المذكرات وكاتب التاريخ. يستعير كاتب المذكرات الوسيط الذي يستخدمه المؤرخ: وهو حكى الوقائع المسجلة تحريريا، وهو زيادة على ذلك، وعلى الرغم من النفي والانكار الذي يحيط بهما مشروعه، يلجأ إلى كثير من الإجراءات التي يخضع لها منافسه الرسمي نفسه (مع إلزام نفسه ربما بدقة أكبر) ومنها: البحث عن مراجع، والتحقق من التواريخ، والاستشهادات، ومضاهاة المصادر، ومن هنا يمكن القول إن كثيرا من المؤلفات الأدبية المعينة على التذكر تمتاز بخاصية الجمع بين صدق الشهادة وضمانة التاريخ. النقطة الثانية التي يقف عندها هو أن الخطاب التاريخي هو في الغالب يأتي كنتاج لبعد مسافي عن الشيء المدروس، وكذلك الحال بالنسبة للذكريات، التي ترتبط أيضا ببعد زمني وبمحاولة لإعادة قراءة الماضي، لكن ما تمتاز به الأخيرة، هو أنها قادرة على إرباك التاريخ والمؤرخين، فهي تصل في بعض الظروف إلى ما يدعوه «سلطة صياغة التاريخ» ففيها الماضي مدركا ومنشورا من خلال ما عاشوه (كتّاب المذكرات) في هيئة نصوص سردية تقع على الحد المشترك بين المعيش اليومي والتاريخ (كما يعيد بناءه المتخصصون). وهنا يؤكد المؤلف أن اعتماد المذكرات كنصوص لإعادة قراءة التاريخ، لا يعني القبول بها كما هي، ففيها الذاتي، والذي يعد هنا مصدر غنى وليس مصدرا سلبيا بالضرورة، ولتوضيح فكرته هنا يستعين برؤية مواطنه الراحل بول ريكور، الذي يعتقد أنه لا يوجد «نص يعد أخلاقيا محايدا» ففي سطور أي نص تلتقي وتتعقد خيوط مبادرات شخصية ومواقف من شأنها إثارة مسائل علمية وأخلاقية، وبالتالي فالراغب في استعادة ما كان عليه الماضي لا تسعفه جدية البحث في المراجع، بقدر ما يساعده حصر الأشخاص وعدهم واستحضار الملابسات وتبرير الدوافع، وهو ما توفره نصوص الذكريات والسير الذاتية، ولذلك بات الاطلاع عليها، ودفع الآخرين لكتابتها، واجبا ومصدرا معرفيا، لا بد من الإقبال عليه، في زمن لم نعد نمتلك فيه سوى بقايا ذكريات وسير، والقليل من الأمل في المستقبل.

(القدس العربي)