تقول قصة شعبية عن تأسيس القاهرة، بأنّ من بنى هذه المدينة هو في الأساس حلواني (مهنة صناعة الحلويات). وهناك من قال إنّ أصل هذه القصة يعود بالأساس إلى جوهر الصقلي الذي خطّط للقاهرة زمن الفاطميين. إذ كان هذا الرجل/الفاتح العارف بفنون القتال والمعارك، مولعا بالمقابل في صناعة الحلويات. وعلى الرغم من طرافة القصة، فإنها تعكس سردية بقيت تحكم قراءتنا لتاريخ وواقع المدن العربية المعاصرة، وهي سردية لا ترى أي إمكانية للتفسير إلا من خلال ربطها بحكايا التأسيس. وفي حالة القاهرة يصبح كل أبنائها هم أولاد الحلواني، الذي أطعمهم حلاوة الكلام الطريف، الذي باتوا معروفين به في حياتهم اليومية، وفي مسلسلاتهم وأفلامهم.
لكن ما يسجل على هذا التفسير بالمقابل، أنه يتعامل مع حس الطرفة مع المصريين باعتبارها جزءا من مكونات هذه الشخصية، في حين نعتقد أن الفكاهة لا تولد بالفطرة بالضرورة، بل هي وليدة ظروف وعصر أصحابها (الملقي) ما يعني في حالة المصريين اليومن أو على أقل تقدير في المئة سنة الأخيرة، أنّ هناك من لعب دورا في إنتاج هذا الخطاب الفكاهي، وهي صناعة ليست بالسهلة، بل تحتاج إلى معرفة بالمجتمع وحساسياته ولسانه.
وربما ما دعانا إلى ذكر هذه التفاصيل كتاب «جمهورية الضحك الأولى.. سيرة التنكيت السياسي في مصر» لمؤلفه الصحافي المصري طايع الديب. إذ سنكتشف مع هذا المؤلف الممتع أنّ النكتة لدى المصريين لم تولد بالفطرة فقط، بل أيضا هناك مجموعة من المثقفين والكتاب والسينمائيين قد عملوا وبذلوا جهودا كبيرة في هذا السياق، قبل أن يصبح موضوع النكتة شيئا من مكونات الشخصية المصرية اليوم.
يذكر الديب أنه بعد قدوم جمال عبدالناصر للحكم، حاول بعض المثقفين المصريين، من أمثال كامل الشناوي وصديقه المشاغب محمود السعدني وعبد الرحمن الخميسي، إطلاق النكت المحبوكة باحتراف ضد سادة مجتمع ما بعد الثورة.
كانت منصة التأليف هي قهوة عبد الله الكائنة في قلب ميدان الجيزة وقتها، حيث كان هؤلاء الثلاثة يسهرون الليالي يستقصون المفارقات الساخرة في مجتمع الثورة. وقد اعتُقلوا جراء ذلك، ومن بينهم الشناوي الذي سجن لشهرين. ويبدو الرئيس عبد الناصر في الكتاب، خلافا لبعض الصور والمقابلات المنشورة له في نهاية الستينيات، رجلا يستنكر الضحك العام والنكت. بالغ عبدالناصر ورفاقه في بداية الثورة في إظهار تقشفهم، تماشيا مع مفردات العصر الاشتراكي الجديد. فكانوا يعقدون اجتماعات مجلس الوزراء معظم النهار، ويتفاخرون بأنهم حضروا إلى مقر الحكومة راكبين الترامواي، لكن هذا الوضع لن يطول كثيرا مع تحول هؤلاء الضباط لاحقا إلى مشاركين ومسيطرين على كل المجالات عموما. وهذا ما بدا مع شخصية المشير عبد الحكيم عامر، الذي استلم إلى جانب منصبه نائبا للرئيس والقوات المسلحة، رئيسا لاتحاد كرة القدم، ورئيسا للطرق الصوفية، ومشرفا على هيئة النقل العام في القاهرة. وكان من الطبيعي في ظل هذه الأوضاع، أن تحاول النخب المصرية آنذاك الرد من خلال خلق جو عام يساعد ويشجع على صناعة النكتة.
اللافت في هذا السياق، أنّ مدينة مثل دمشق عاشت حالة شبيهة في الخمسينيات على صعيد محاولة بعض النخب خلق جو يشجع على ابتكار أدب النكت. وهو ما نلحظه مثلا في مذكرات نجاة قصاب حسن، الذي يؤكد أنّ ظرفاء دمشق (ومن أشهرهم حسني التلو) كانوا يجتمعون في منزل الظريف/السياسي فخري البارودي، ويقضون الليل يتبادلون النكت التي تتناول في العادة الأوضاع السياسية في سوريا وتقلباتها. لكن يبدو أنّ هذه الأجواء غابت لاحقا مع قدوم الأحزاب الأيديولوجية السورية للسلطة، التي يخيل لنا أنها لعبت دوراً في الحد من هذه الظاهرة. وهذا ما يبرر غياب كلمة الظرفاء من المجال العام الدمشقي، في حين نعثر على وجود قوي لها في الخمسينيات. وربما من هنا نفهم عبارة أنيس منصور في تعليقه بعد 20 سنة على خطاب عبد الناصر بعد النكسة الرافض للنكت بالقول «إن المصريين أولاد نكتة، إننا مختلفون عن الشوام الذين أردنا أن نكون مثلهم: فلاسفة لا يضحكون!». ففي هذا الكلام ما يدعم ما أشرنا إليه من أنّ صناعة النكتة السورية، تراجعت مع قدوم الخطاب الأيديولوجي السوري/اليساري والإسلامي، ما انعكس على الخطاب النخبوي السوري إلى أيامنا هذه، الذي ظل يميل للكتابة النظرية في كتاباته. واللافت أنّ هذه الشخصية الفكاهية السورية سيعاد إحياؤها لاحقا مع ظهور أول دراما كوميدية في سوريا (غوار الطوشة وحسني البورظان) في عام 1967. إذ أنّ النجم الراحل نهاد قلعي، الذي لعب دور حسني البورظان، لم يخترع هذه الشخصية، وإنما كوّنها، وفقاً لما يذكره نجاة قصاب حسن، من شخصيتين (حسني التلو وفخري البارودي، ظرفاء الخمسينيات).
وبالعودة لصناعة النكتة في مصر بعد الخمسينيات، يلفت الكاتب نظرنا هنا إلى أنّ عبدالناصر سرعان ما بدا مدركا لخطورتها، ولذلك كلّف أجهزة الرئاسة بجمع تقارير يومية وأسبوعية وشهرية عن النكت المنتشرة. ومع قدوم الهزيمة، سينفجر زمن النكتة في القاهرة، وربما لعب الراديو والتلفزيون دورا في ذلك. وهنا سيحذّر عبد الناصر من هذا الانتشار للنكت من خلال حديثه عن الشعب المصري الطيب الذي يسمع لها بينما الحقيقة أنّ الكثير من هذه النكت، كما كان يعتقد مصدرها، مقر السفارة الأمريكية. ويبدو أنّ هذه القناعة تولدت لدى عبدالناصر عبر التقارير المخابراتية التي كانت تصله، وهذا مثلا ما يمكن استنتاجه عبر ما كتبه رئيس جهاز المخابرات الأسبق صلاح نصر في كتابه «الحرب النفسية: معركة الكلمة والمعتقد» والصادر سنة 1966. إذ يتّهم صراحة، في هذا الكتاب، السفارة الأمريكية ويقول إنها «كانت تعقد مجلس نكت أسبوعيا، يضم شرذمة من الخونة المأجورين من محترفي حبك النكت للتعريض بالضباط الأحرار والمسؤولين الكبار». لكن ناصر الرافض للنكتة في فترة قدومه الأولى وبعد نكسة 67، سيبدو في أيامه الأخيرة خلاف ذلك. واللافت أنّ فكاهاته لم تكن في دوائر ضيقة، بل علانية، فقد بدا الصعيدي القوي كأنما أدركه التعب أخيرا، وأدرك الرجل أن الحياة لا تستحق التجهم.
السادات الريس… نكتة كبيرة
ومع قدوم أنور السادات للحكم، ستتشكل قصة جديدة بين المصريين والنكت السياسية، الذين اعتبروا مجرد وصوله للحكم «نكتة كبيرة». وكان السادات قبل توليه الحكم قد عُرِف بممارسته لمهن عديدة مثل شيال دقيق في فرن بلدي، كما حاول في الأربعينيات أداء دور كومبارس في السينما، وما يذكره أيضا في مقال له نُشِر في عام 1955، أنه أطلق لحيته وأعطى لنفسه لقب الحاج وتدروش. وكان لا بد أن يقتبس المصريون بعض الصور من هذه السيرة الطريفة، لاستخدامها لاحقا في مقاومة حكمه. وقد طالت النكت أيضا أفراد العائلة، ومنهم زوجته جيهان التي فرضت لقب سيدة مصر الأولى. ولذلك كانت هي وزوجها هدفا للتعابير الشعبية الساخرة، ومنها «أقرع بزبيبة (علامة في جبين السادات).. ومراته كسيبة» في إشارة لتوسع نفوذها الخيري والسياسي.
من الصور البديعة التي يلتقطها المؤلف عن هذه الفترة، خطب الشيخ الضرير عبد الحميد الكشك، الذي كما يذكر جيل كيبل، كان من المستحيل في الأيام الأخيرة من عهد السادات، أن يتجول المرء في القاهرة، دون سماع صوت الشيخ كشك الراعد في مكان ما، بحنجرته التي لا تضاهى، وفكاهته المفعمة بالشراسة لانتقاد السلطة والسادات، ولذلك انتشرت تعليقاته في كل مكان، وباتت بمثابة نكت يتناقلها المصريون في أحاديثهم، ومن ذلك الشعر الشعبي الذي كان كشك يردده: يا بلدنا يا عجيبة فيكي حاجة محيراني.. نزرع القمح في سنين، تطلع الكوسة في ثواني.
مبارك… البقرة الضاحكة
مع قدوم الرئيس المصري حسني مبارك، حاول في أيامه الأولى التجول في كل مكان وعلى وجهه «ابتسامة غلب» ظاهرة. ونكاية في هذه الابتسامة أطلق الناس على الرجل اسم البقرة الضاحكة، نسبة إلى اعلان الجبنة الفرنسية المشهور لافاش كيري الذي كان يذاع في قناتي التلفزيون الحكوميتين، فاختفى الإعلان من التلفزيون نهائيا. ولاحقا مع ظهور أولاده وزوجته على مسرح الحياة العامة، أخذت النكت تطال أيضا أبناءه، وهذا ما عبرت عنه نكتة تتحدث عن سائح ركب مع سائق تاكسي من المطار، ووجد صور على التابلون فسأله مين دول؟ قال الشوفير ده الرئيس أنور السادات بطل الحرب والسلام وده حسني مبارك (أبو علاء) شريكي في التاكسي. وربما ما يسجل على الكتاب هنا، أنه لم يول للسينما المصرية ولشخصيات سينمائية مثل عادل إمام دورا في خلق جو عام يدعو للنكتة وصناعتها في الحياة العامة، تارة من خلال تقليد الممثل أو تقمص شخصيته، أو من خلال تكرار بعض العبارات، ومن ثم إضافة بعض التغييرات عليها مع مرور الزمن. ولعله لو فعل ذلك، لكنا تمكنا أكثر من فهم طبيعة الفاعلين والمؤسسات التي جعلت المصريين لاحقا يكتسبون حس النكتة مقارنة بمجتمعات عربية أخرى.
مع قدوم ثورة 25 يناير/كانون الثاني، ظهر شكل مبتكر من التنكيت السياسي يتكوّن من عبارة واحدة طويلة: رسالة من تلميذ.. إلى أعزائي المتظاهرين في ميدان التحرير، بخصوص الثورة اللي شغالة عندكم دلوقت متنسوش إنها هتدخل في مادة التاريخ واحنا اللي بنحفظ، اختصروا من فضلكم. لاحقا طرأ تغير كبير على شكل النكتة، فبعد أن كانت تتميز بطابعها السردي، أصبحت الغالبية العظمى منها تصاغ في ما لا يزيد عن سطر واحد. وهكذا أصبحت النكتة قصيرة جدا، ومن ثم أسرع في الانتشار، كما تحولت بعضها إلى نكت مصور (كوميك) بطلها هو الرجل الضاحك.
التحشيش والتنكيت:
من الفصول الجريئة في الكتاب، الفصل الذي يتعلق بعلاقة النكتة بالتحشيش في مصر. وفي هذا السياق يرى المؤلف أنّ الحشاش المصري هو صانع نكتة من الطراز الأول. وهو لا يتقصى بينما يفعل ذلك الضحك للضحك فقط كما يبدو في الظاهر السطحي، بل إنه يحمل على كاهله مهمة أكثر جدية وسموا، وهي التنكيت باسم الشعب، بينما هو مستمر في الحياة، لا يبالي.
لا يخصص الكتاب فصلا عن النكتة في زمن عبد الفتاح السيسي، وهو أمر مفهوم، في ظل القمع الأمني، مقارنة بزمن «ديمقراطية مبارك» وهي عبارة بات يتداولها المصريون والعرب من باب التنكيت على الواقع. مع ذلك، هناك الكثير من النكت المدونة في الكتاب، والتي تنطبق على واقع المصريين وأحوالهم هذه الأيام، ومن بينها نكتة تقول «إن الديك والكلب والحمار طلبوا الهجرة من مصر، ووصل الأمر إلى سمع مبارك فاستدعاهم جميعا ليعرف أسبابهم، سأل الديك أولا: عايز تهاجر ليه؟ فقال: أنا كل يوم الصبح أقعد أأذن والناس مبتصحاش تصلي ولا تروح الشغل عشان مفيش شغل. ثم سأل الكلب فقال: بصراحة كده البلد اتملت حرامية، ومش عارف أجري ورا مين ولا مين، وجاء دور الحمار فسأله: وأنت بقى كمان عايز تهاجر ليه؟ قال: عشان مينفعش يبقى في اتنين حمير في بلدة واحدة».
*القدس العربي