محمد تركي الربيعو: الحياة والتاريخ… رحلة قصيرة حول كتابة السيرة في أوروبا

0

يلاحظ في السنوات الأخيرة في عالم الكتاب العربي، زيادة الإقبال على قراءة ونشر كتب الذاكرة والسيرة الشخصية، وكل ما يتعلق بقصص الحياة واليوميات، لكن على الرغم من هذا الاهتمام، ما نزال نفتقر في هذا الجانب لنقطتين أساسيتين: الأولى تتعلق بالنقاش حول أسلوب كتابة هذه السير، أما الثانية فتتمثل في تقليدية الأشخاص، الذين ترصد حياتهم، إذ ما تزال السير السياسية تحظى بالاهتمام الأوسع مقارنة بسير الأشخاص الآخرين، وفي الغالب ما يكون صاحب السيرة هو من يدونها. ومما يسجل على غالبية المؤرخين العرب في هذا الجانب أيضاً عدم تجديدهم، أو دفع طلبتهم للخوض في مغامرات أخرى في سير الأشخاص مثل، قراءة سيرة أحد لاعبي كرة القدم، أو ممثل تلفزيوني، أو سيرة طباخ، الذين أصبحوا أبطال عالم اليوم، ولعل ما يضاعف من ثقل هذا الغياب للسير الأخرى، أو للسير الجديدة، وفق تعبير فرجينا وولف، أن انهيار المدن العربية التقليدية الذي أخذنا نعيش فصوله بشكل متسارع في السنوات الماضية، جراء الحروب والأوضاع السياسية، أخذ يفرض علينا ضرورة جمع سير وذاكرة هذه المدن، وهنا قد يعد باب تدوين سير الأشخاص في هذه المدن، أو ممن رحلوا عنها الطريق الأقصر، وإن بدا غير كافٍ، لجمع بعض التفاصيل، وقد لا يكون هؤلاء الأشخاص بالضرورة من نخب هذه المدن فقط، بل لا بد من خوض مغامرة تدوين سير الناس العاديين.

السيرة الذاتية الإنكليزية.. قصة قصيرة

ولعل من الكتب المهمة التي تقدم جديدا في السياق العربي حول عالم كتابة السير، والأفكار التي تحركها، كتاب «السيرة» للكاتبة البريطانية هيرمون لي، وهي أستاذة سابقة في جامعة أكسفورد، ومؤلفة عدد من السير، أحدها حول فرجينيا وولف، ترجمة ابتسام خضرا، ومراجعة عمر سعيد الأيوبي. إذ تحاول في مؤلفها التطرق لأساليب كتابة السير في بريطانيا، منذ عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر إلى وقتنا الراهن. وفي هذا السياق، تلاحظ المؤلفة أنه حتى القرن العشرين، كان كاتب السير يكشف تفاصيل قليلة عن مرحلة طفولة صاحب السيرة، إلا إذا ذكرت له نوادر بقصد الإشارة إلى سلوكياته، ففي أواسط القرن التاسع عشر، وحتى آواخره، كانت السير تميل في الغالب إلى حجب المسائل الجنسية، والخصوصيات المنزلية، لكننا اليوم نعد هذا التكتم أمراً غير وارد.
وبالعودة للقرون السابقة، ترى المؤلفة أن سير القديسين كانت هي الطاغية، لكن في عصر الإصلاح الديني، أخذت نزعة الشك وتجارب الفنون والعلوم تتسرب إلى أوراق السير الذاتية، ولذلك باتت قصص الأتقياء تتعرض للهجوم، بوصفها صورة من عقيدة الخرافات، وبحلول القرن السابع عشر، كان كثير من الكتاب الإنكليز مثل توماس فولر مؤلف مجموعة «وجهاء إنكلترا» يحتقرون الزيف في سير القديسين وثقافة التبجيل، التي تتحكم بها الكنيسة. وفي القرن الثامن عشر، انتشرت السير اللادينية، التي تحكي عن رجال عظماء سقطوا مع دوران عجلة القدر، كما ترافقت هذه الفترة مع ثورة الطباعة والقراءة في بريطانيا، ما ساعد في شيوع تجارة الكتب والسوق الأدبية وسير الأمراء والكتّاب.

مما تسجله المؤلفة عن هذه الفترة، أنها على الرغم مما عرفته من تحولات ونقد لسير القديسين، لكنها بقيت متحفظة على البوح ببعض القصص، إذ بقيت للصراحة حدود لا يمكن تجاوزها، وهذا ما سيكون محل نقد من قبل الكتاب في القرن التاسع عشر، الذين دعوا إلى الكشف عن قصص أخرى في السير تتعلق بالحياة الجنسية للأشخاص، لكن هذا التطور لن يمر أيضا دون اعتراض البعض، والدعوة لتأسيس رؤية أخلاقية في كتابة السيرة، كما نرى في مقالة نشرت عام 1883 كتبتها مارغريت أوليفانت، وطالبت العاملين في هذا الحقل بتحمل المسؤولية تجاه «عجز المتوفى» ومع بداية القرن العشرين كانت فرجينيا وولف تتحدث عن السيرة الجديدة، والحاجة إلى وضع صورة عن الماضي، وإلى وضع حياة الفرد في إطار عائلته وبيئته وحضوره غير المرئي، لكن التطور الأهم في القرن العشرين جاء في البداية مع إدموند غوش في كتابه «الأب والابن» الذي تحدث فيه عن طفولة شديدة الغرابة، وعن الاختلاف بين طباع والده الأرمل المتدين وعالم الطبيعة، وطباع الطفل. ومع الحرب العالمية الأولى بدأ يظهر ميل نحو كشف زيف سير العديد من الأبطال، وإظهارهم عبارة عن أشخاص مهووسين ومعزولين، كما تزايد الميل نحو التركيز على القصص الغريبة والغامضة مثل، نقل التفاصيل الجسدية لأصحاب السير، كأنف كليوباترا وناسور لويس الرابع عشر.

بين فرويد وغوفمان

جاء التأثر بالنهج الفرويدي، ليؤسس إلى تصور آخر لكتابة السير، قائم على إيلاء الطفولة مكانة كبيرة، ومن هنا أعيدت كتابة سير بعض الشخصيات مثل، ليوناردو دافنيشي، الذي فسر فرويد أعماله بأنها قصة اضطراب عصبي ومثلية جنسية، كما أدى هذا التأثر الفرويدي إلى زيادة التركيز على سرد تفاصيل النشاط الجنساني، بوصفه يعكس الحياة العقلية لبطل السيرة، إضافة إلى ذلك، شهدت هذه الفترة تطوراً آخر جاء مع السوسيولوجي الأمريكي إرفنغ غوفمان، الذي نظر في كتابه «تقديم الذات في الحياة اليومية» إلى سلوكيات الأفراد في الميدان العام، وكأنهم في مسرحيات يؤدون أدوارا متقنة من أجل بناء صورة عن النفس، وانطلاقا من هذه الرؤية، باتت مهمة كتاب السير أن يصلوا إلى ما وراء المسرحية المعلنة، للكشف عن الشخص الحقيقي في منزله وفي ثيابه المنزلية.
ولعل ما يسجل على الكتاب، أننا لا نعثر فيه على إجابات واضحة حول نصوص السير في فهم اليومي، وحدود الاستفادة منها، وقد يعود ذلك كون المؤلفة حاولت كتابة قصة قصيرة عن هذا العالم، مع ذلك لم تخلُ الفصول الأخيرة من إشارات مهمة وغنية حيال ضرورة البحث في سير المغمورين، بما إن السيرة تنطوي دائما على السياسة الاجتماعية والثقافية في زمانها ومكانها، كما أنها خصصت الفصل الأخير لنقل تجربتها في عالم كتابة السير. وهنا ترى المؤلفة أنه من الضروري اتباع تكتيكات سردية للتعامل مع أنواع مختلفة من الجمهور، وهي بذلك تفتح الباب أمام نقاش أوسع حول أساليب كتابة السير، وما هي موضوعاتها اليوم، وبالأخص في عالمنا العربي، الذي قد تظهر فيه أحيانا سير الأشخاص بوصفها الملاذ الأخير، أو لنقل المصدر المتوفر، لكتابة رواية حول ما حدث ويحدث في هذا الجزء الشقي من العالم.

*القدس العربي