إحدى عشرة سنة مضت وما تزال المعتقلات تغص بضحاياها، عالم مظلم يضج بالتعذيب والقهر والانتهاكات، عالم مقيت لا يخرج منه الداخل أبداً، ما يخرج هو بقايا ذلك الإنسان وقد تغير أو تشوه بشكل يصعب تخيله، ومع هذا نصرّ على تسميتنا “الناجين”. ربما هو إصرار وتجلي لإرادة الحياة.
هذا هو المتن الأولي لتلك المأساة المستمرة، لكن هناك شطر أشد إيلاما وهو ما يتعلق بالناجيات، فحجم ما يتعرضن له من انتهاكات لا يمكن الإفصاح عنه بشكل جلي، الأمر الذي يجعل الجريمة مستمرة، في شطر كبير من حياتهن، ناهيك عما يتعرضن له بُعيد الخروج من وسط اجتماعي لم يؤهل بعد للتعامل مع الناجين والناجيات على حدٍ سواء.
في عمل دؤوب ربما دام سنوات، استطاعت منظمة “ناجيات سوريات” توثيق مجموعة من هذه الشهادات النادرة، التي ترقى إلى مصاف الوثائق القانونية والتأريخية.
منظمة ناجيات سوريات، أسستها مجموعة من النساء السوريات المؤمنات بعدالة الثورة السورية، وقيمها المتمثلة في الحرية والديمقراطية، ممن خضن تجربة الاعتقال بسبب مشاركتهن بالرأي أو العمل السياسي، ويتطلعن إلى غد يعد بالعدالة وإنصاف الناجين وطيّ ملف الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري. ولأن العدالة مطلب إنساني يشترك فيه الناجون جميعاً ومن يناصرهم، كان لابد من بذل الجهود وتضافر الطاقات لتوثيق تلك الانتهاكات، كيما تقدم لنا ولأبنائنا من بعدنا حقيقة ما جرى، ولتكون أداة إحقاق الحق، وتكذيب مزاعم أبواق النظام وداعميه.
سبع حكايات هن نموذج صارخ، عن حجم الظلم الذي طال آلاف النساء السوريات، وكان سبباً في تدمير حياة الكثيرات منهن، أو تغييرها تغييراً جذرياً، لكن من المهم والمهم جدا أن هذه الشهادات التي ضمها الكتاب، تذكر أسماء محققين وجلادين، كيما يعلم القارئ أنه يطالع قصة حقيقية بأشخاصها وليست إبداعات أدبية متخيلة، ولتقول لآلاف المجرمين إن أسماءكم لن تنسى وستبقى وصمة عار تلتصق بجباهكم ما حييتم، وكلنا أمل أن نستدعيكم للمحاسبة في يوم قريب، فتنالوا جزاء ما قدمت أيديكم القذرة، ربما كان من السهل أن نوثق حديث ناجٍ من التعذيب والاعتقال، لكن توثيق تجربة النساء لها محاذيرها ومخاطرها وإشكالياتها التي يصعب تجاوزها، وربما لهذا السبب كان عدد الشهادات قياسا لعدد الناجيات محدودا جدا.
في الحكاية الأولى “إنسان مع وقف التنفيذ” تحكي لنا معلمة الموسيقا قصة الحياة الهادئة والأحلام البسيطة، في مدينتها دير الزور، تعبيرا عن بساطة الناس وتطلعاتهم المتواضعة، تلك التطلعات التي رفض النظام السوري تلبيتها، حتى في حدودها الدنيا، ليس عجزا بل تعنتا وتجبرا، فهو أكبر من أن يجاري رعاياه، مدينة عريقة هي دير الزور التي تشرب من فراتها، تكدس أهاليها في حيين اثنين، شهدا أكبر مجزرة عرفتها المحافظة في أيلول 2012، كان ضحيتها أربعمئة شهيد تمت تصفيتهم بطرائق إعدام وحشية، على يد جيش النظام وميليشياته.
ليست مهمة طريقة الاعتقال أو سببها المعلن، فلدى نظام الأسد خبرة خمسين سنة على الأقل في إدارة المكائد والخدع، التي حفظ الشعب السوري منها الكثير الكثير، هي خمس دقائق وحسب، بضع أسئلة وتعودين، الأمر محض إجراءات إدارية، ثم الدخول في ذلك النفق المظلم؛ روائح الدم وصوت المعذبين والأنين الذي لا يتوقف، وصوت الكابلات والجنازير التي تنهال على الأجساد دون فتور، ثم جلسة التحقيق الأولى التي تفضي إلى حجرة التعذيب، وهناك يتبدد أدنى وهم أو حلم بالنجاة، وتصبح ذكريات الأمس القريب بعيدة بعد الكواكب عن ناظريها. سيكون التحقيق إثر التحقيق مسننات فولاذية تسحق روح هذه السيدة التي كانت بالأمس القريب مربية للأجيال، واليوم تسام التعذيب بالكابلات النحاسية التي تفتك بجلدها على يد زبانية متوحشين، ليغدو الموت السريع أقصى الأماني.
ليس بالإمكان شرح ما يفعله التعذيب صعقا بالكهرباء، لا توجد كلمات مألوفة أو معتادة لتشرح شيئاً لم نعرفه من قبل، لكنه باقتضاب عصارة مكثفة ومدببة من حزمة هائلة من الألم تخترق جميع خلايا الجسد دفعة واحدة، فتحيل إلى رمادٍ أسود كل ما مر بجنان هذا الإنسان من أحلام وأشياء طبيعية، ولا تبقي في شعوره إلّا الرعب المهيمن.
ستعترف رغماً عنها بما عرفت وبما لم تعرف، وستبصم بإبهامها على مجموعة أوراق فيها كل اعترافاتها التي لم تنطق بها أصلاً، ولن تعرف حتى بعد عشرين سنة على ماذا بصمت، فهم يصوغون التهمة والاعتراف، ويحصلون على بصمة إبهامك غصباً، وسيفيدك من سبقوك أن البصمة بالحبر الأزرق تمهد لإخلاء السبيل أما ذات الحبر الأحمر فتعني النقل إلى أقبية التحقيق في دمشق لاستكمال التحقيق الأخطر.
ستكتشف أن أقسى أنواع الموت وأكثره تغييباً، هو الذي يبقيك حياً بالمعنى العضوي، بينما يسلبك كل ما يجعلك أنت، كما هو حال الميت سريرياً. يستدعيها المحقق ذات مساء، سيقفل غرفة التحقيق عليهما، لا يوجد تعذيب كالاغتصاب يقهر النساء، سينال منها ما يشاء وكيفما يشاء، ليس بالضرورة لأنه يشتهيها، بل ليحطم فيها ما تبقى من كرامة إنسانية، وليحفر في روحها قذارته التي لن تمحى، حتى لو قتلته بيديها ألف مرة، يأبى هذا النظام المجرم، بكل تفاصيله إلا أن يبلغ الحدود القصوى للانحطاط البشري، وحتى الحيواني، ليحفر في وجداننا تنكيل آلهة الرعب التي يمثلها، والتي تنتظر كل من يعارضه.
لن تكون عدالة العين بالعين ذات جدوى في هذه الحكايات، ولا يمكن لأي جزاء مهما أسرف في انتقامه أن يرد لهذه الأرواح المسحوقة بعض ما سلب منها، وستكون حياتهن القادمة محطات متعرجة من المعاناة والألم والذكريات المؤلمة والمهينة وسيكون درب التعافي طويلا جدا، لكن معظم التجارب تشير إلى أن قص الحكايات وتوثيقها ومواجهة ما حصل بصورته الكاملة هو السبيل الأجدى لبعض التعافي الذي نأمل أن يكون قريبا.
في الحكايات السبع ستسمع مزيدا من القهر الذي تجرعته ناجيات أخريات، وستعلم أن هناك آلاف الناجيات الصامتات، اللائي ما زلن يعاركن براكين الصبر في صدورهن وغير قادرات على البوح الذي قد يشفي، أو يقتل أحيانا.
لن تجد في هذه الشهادات بدعا من الأخبار والقصص العجيبة، فجميعها تروي حكايات عرف السوريون المئات منها، لكنها في هذه الشهادات الموثقة وجها لوجه مع أصحابها وأسماء جلاديها، مع صوت الناجيات اللائي ينكأن جراحهن بإصرار ويقلبن أدق تفاصيل تلك الذكريات القاتلة، ليوثقنها ببطولة عز نظيرها. فجميعنا يعلم ماذا يعني أن تصرح أنثى بأنها تعرضت لأبشع أنواع الاغتصاب المتكرر والجماعي أحيانا، نحن اليوم أمام ناجيات من لحم ودم يروين مأساتنا ومأساتهن، ممزوجة بدمائهن وأرواحهن الممزقة، ولسنا نطالع حكايات عابرة مبنية للمجهول، وهذا برأيي أهم ما يميز هذه الشهادات.
تمضي فتاة حلبية في رحلة اعتقالها التي لن تقبل أن تنكسر فيها، ويبقى حلمها بالحرية زادها اليومي، لتخرج في صفقة تبادل أسرى مع النظام، ومن هناك إلى لبنان إلى تركيا، تنفصل عن زوجها وتمضي مع أولادها فتؤسس روضة للأطفال السوريين في مدينة تركية، وتبقى على عهدها تنتظر شرارة جديدة للثورة لتهتف لها ملء حنجرتها من جديد: يا حرية.
هذه فتاة من الجولان السليب الذي تحتله إسرائيل، ذاقت وأهلها مرارة النزوح إلى دمشق، لكن هذا لن يقارن بالويلات التي ستشهدها في معتقلات النظام، بعد أن وشى بها أحد أقربائها الموالين لنظام الإجرام، حتى المحققون دهشوا من فظاعة وكذب التهم الملفقة لها، لكن هذا لم يمنعهم من أن يتناوب على اغتصابها خمسة جلادين ومحققين في ساعة واحدة، وبعدها لن تكون هي نفسها مرة أخرى. ستهرب إلى تركيا، ستتزوج ولن يلبث زواجها أن ينهار، بفعل عقابيل ذلك الاعتقال الوحشي، ستمضي في حياتها بقية إنسان، بدون أهل ولا زوج ولا أولاد ولا وطن ولا حلم، هذا ما بتنا نسميه بالجريمة المستمرة حيث يبقى المجرم مجرما مسرفا في إجرامه وتبقى الضحية تعاني إلى زمن غير معلوم.
ستبقى هذه الشهادات وصمة عار في جبين نظام الإجرام في دمشق وجميع مناصريه، وسيبقى التوثيق سلاحنا الأمضى في فضح الجريمة والمجرم وربما ستكون سبيلنا لإنصاف آلاف الناجيات والناجين.
*تلفزيون سوريا