في مضمار البحث عن خصائص السجانين وطرق تعاملهم مع السجناء يمكننا الحديث عن بضع اشكال للمعتقلات السورية التي تفرز أنماطاً متباينة لسلوك السجّانين، مع الإصرار على التأكيد أن طبيعة السجن “المعتقل” ووظيفته المحددة من الأعلى، وربما بعض خصائص الضابط المنوط به أمر إدارة هذا السجن، من أهم العوامل التي تؤثر بشكل حاسم ودقيق في نمط تعامل السجّانين مع المعتقلين.
وربما كان اعتمادنا على تعبير المعتقل بدل تعبير السجين، لترسيخ التمايز النوعي بين سجناء قضائيين معظمهم مدانون أو متهمون بجرائم جنحية أو جنائية، وبين معتقلين لقضايا سياسية، سواء كانوا معتقلي رأي أو معتقلين بمواجهات مع السلطة الحاكمة، كما كان الحال في ثمانينات القرن المنصرم، وفي الفترة التي بدأت عام “2011” وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا.
في البدء ستعترضنا إشكالية التعريف أو التصنيف فشخصية السجّان محددة بوظيفتها في حفظ السجناء داخل أسوار السجن وإبقائهم أحياء، من خلال الاشراف على حصولهم على مواردهم التي تتمثل في الطعام والشراب وأدوات النظافة، والرعاية الصحية وحسب، ثم اضيف لها لاحقاً بعض الأدوات التي لم تكن مطروقة سابقا مثل الكتب والصحف وإتاحة ساحة للرياضة والمشي، وكل هذا مع تطور مفهوم السجين واحتياجاته كانسان، كلُّ ما سبق وكل ما يليه هو حديث عن السجّان في المعتقلات السياسية وحسب، يخرج عن هذا الإطار السجانون في السجون القضائية، كي تكون مسارات البحث عريَّةً عن التشويش الذي يسببه الخلط بين العالمين السياسي والقضائي.
ولو عمدنا إلى تشميل كامل المنظومة السجنية من مبدئها إلى منتهاها في تعريفٍ واحدٍ “السجان” لأصبح التعريف مسطحاً جداً، يبدأ من الرئيس الفرد وأركان حكمه ومؤسساته القضائية الفاسدة وبعض المؤسسات الطبية وحتى الموردين الغذائيين، وصولاً للمجند وهو أصغر بيدقٍ في هذه الرقعة، أو الجلاد الذي ينفِّذ حصيلة تلك القوى مجتمعة، ولبات هذا التعريف، يشبه تعريفنا للسوريين مثلاً، بأنهم شعب يقطن تلك المساحة الجغرافية، وهو تعريف لا يعرِّف شيأّ، ولا يمنح خصائص مميزة للمعرَّفين،
وفي العصر الحديث أي في القرن العشرين، وهو قرن يتسم بصعود الأيديولوجيا وصراعاتها التي تتسم بشيطنة الخصوم غالباً إلى أقصى حدود الشيطنة، كما حدث في الدول الشيوعية وخصومها، الأمر الذي بدأ يضع المعارضين السياسيين تحديداً في خانة أسوأ الأعداء والخونة، الامر الذي استدعى اليه حزمة من المواقف العدوانية من الجهة المسؤولة عن المعتقل.
وانتقل المعتقل من كونه مواطناً مخالفا للسلطة، وفق حقٍ يكفله الدستور، يخضع لاعتقالٍ ربما أتاحته سيادة الأحكام العرفية وتمدد قانون الطوارئ الذي أصبح القانون الفعلي، الذي تدار به البلاد، وهذا المعتقل ينفذ عقوبته إلى أمدٍ محددٍ، ويعود الى سابق عهده كمواطن بين سائر المواطنين، هذا المعارض تحول الى عدوٍ يمضي شطراً من حياته كعقوبة في المعتقل، مضافاً اليه كمٌّ كبيرٌ من الكراهية والرفض والرغبة في الإلغاء، وكثيراً ما تلازمه هذه الحمولة السيئة والتهمة الشنيعة، وتلازم أسرته طيلة بقاء تلك السلطة في الحكم، تلك الحمولة السيئة يُشحن به السجّانون تماشياً أو خضوعاً لميل وسياسات الحاكم الفرد وقياداتهم السياسية، التي تحتكر شؤون الحكم، وتمنح الناس براءتهم أو رتبتهم الجرمية، بحسب موقعهم من السلطة الحاكمة قرباً أو بعداً.
مع كل ما سبق يبقى الحاكم في تلك التجارب ذاتاً متعاليةً، تعيش في قناع انساني ظاهري، بينما تتمثل أدواراً إلهية في بسط سيطرتها على المحكومين، وقد تحولت الأنظمة العربية بنسبٍ متباينة، الى آلهةٍ مطلقةٍ يعادل الخروج عليها الكفر والمروق من الدين، وقد استدعت هذه الأنماط السلطوية بعض ذخيرتها القمعية من الأحكام الدينية المختلفة، كحدَّ المارقين والمرتدين والمهرطقين، وهو التنكيل والتعذيب المديد والقتل، استدعاءً من محاكم التفتيش في الغرب، أو من أحكام الخارجين عن الدين والسلطان في ديار الإسلام.
وأصبح السجًان الذي تمدد دوره بشكلٍ مرعبٍ، محض جلادٍ ينفذ التعذيب والتنكيل والإذلال وفق منظومة محكمة يصبح فيها الجلاد الأداة الأخيرة التي تلامس ذات المعتقلين، والحقيقة لو رجعنا الى التاريخ سنجد السجان، ونجد الجلاد كشخصين ودورين متمايزين.
ولو نظرنا على سبيل المثال إلى أدبياتٍ تحدثت عن سجن الرئيس “ابن سينا” في رواية فردقان “ليوسف زيدان” لوجدنا أنَّ السجاّن رفيق حياة السجين وصاحبه ومسامره، وفي مذكرات “ناظم حكمت” أو اليوميات التي كتبها “اورهان كمال” بعنوان “ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت” سنجد أن السجّان صاحبٌ وجارٌ ومحاورٌ، لا نلمس لديه أيَّ منزعٍ للشّر أو رغبة في القسوة على السجين، حتى في السجون السيبيرية لم يكن هناك تعذيب بالمعنى المباشر إنما نفيٌ الى بقعةٍ سيئةٍ وبعيدةٍ من البلاد وحسب.
من الصعب الإحاطة بمفهوم السجّان بشكله المستقل، لذلك سأعمد إلى تناول جملة نقاطٍ تشكل بمجملها مقاربةً ممكنة لطبيعة السجّان في المعتقلات السورية.
- التعذيب في فروع الأمن بغاية التحقيق، والحصول على كلِّ ما يملكه المعتقل من معلومات، أمرٌ مفهوم ومعلَّل من قبل النظام، أمّا التعذيب المستمر واليومي في المعتقلات، وبصورةٍ تتجاوز حدود طاقة التصوّر والتحمّل، فسببها الوحيد الحقد المتوحش، الذي يصبغ شخصيّة جلّاد سوريا” حافظ الأسد” الذي يمكن له التغاضي عن أي شيء إلا المساس بشخصه، كما يصفه كريم بقرادوني في كتابه “السلام المفقود” في فصل “مذهب الأسد السياسي”، فهو يتسامح مع اجتياح الإسرائيليين لبلاده، ويتسامح مع المجرمين المغتصبين والسارقين، لكنَّه لا يتسامح قيد شعرةٍ مع من يمس شخصه المتعالي، لذلك قرر إدخال من عارضه في جحيم العذاب الطويل، انتقاماً منهم ومن نسيجهم الاجتماعي على حدٍ سواء، وكان يحرص أن تنقل له الفيديوهات التي تصور حفلات التعذيب في ساحات تدمر بشكلٍ دوري، ليستمتع بمشاهدتها هو والدائرة الأولى من معاونيه، وهذا موجز مذهبه في التعامل مع المعارضين كالإله الذي لا يغفر أن تمس ذاته المتضخمة، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وقد انتقل هذا التقليد إلى خلفه، بل صار سنةً في التعامل مع المعارضين، وقد أفاد هذا النظام الأسوأ في تاريخ السوريين، من هذه الآلية الرهيبة في بث الرعب في نفوس السوريين، وجعل من الخروج على النظام مغامرةً حمقاء، تكلفتها وضريبتها تعادل آلاف أضعاف غنائمها، فرسَّخ الوهن والرعب والخضوع في أنفس رعاياه.
- ن يقوموا بضربنا وتعذيبنا بديلا عنهم في الحديث عن السجن والسجاّن يجدر بنا التحديد في كل مرة ٍعن أيّ سجن نتحدث، فبالرغم من التقطعات الكبيرة التي تشمل في خصائصها معظم سجون الأسد، إلّا أنَّ لكلِّ سجنٍ خصائصه الفردية، التي تجعل من إغفال مراعاة خصوصيته، ونسب الحكاية إليه تحديدا، عاملا يشوش الروايات، ويجعل من بعضها زعماً يصعب تصديقه، إن هو لم يحصره في إطاره الحقيقي، فعلى سبيل المثال لو تحدثنا عن واقعةٍ ولم نحدد أنها حصلت في سجن صيدنايا، وتوهَّم السامع للحظهٍ أنَّ تلك الحكاية حدثت في سجن تدمر لجزم السامع أنها محض تخرصٍ وكذب.
- في سجن تدمر تحديداً لا وجود لشيءٍ يمكن أن نطلق عليه تعريف السجّان، هناك جلادون فقط، من أصغر عنصرٍ وصولاً الى مدير السجن العسكري، الجميع ينفذ عملية التعذيب وفق ظروف متعددة، ولا يجري فعل التعذيب على عواهنه، بل يسير وفق وتائر محددةٍ ومنظمةٍ بدقة، سيكتشفها السجين بتعاقب الأيام والآلام، وسنعرف على وجه اليقين من خلال سماعنا صوت الضابط الأعلى أو ضابط أمن المعتقل، أوامر صارمة بالتزام تلك الحدود أو تلك أو بمنع التعذيب بشكلٍ صارم في هذا اليوم أو ذاك، وسنسمع لمراتٍ متكررة أصوات ضباط روس يوجهون تعليماتهم بلغةٍ آمرة، وسنجد عناصر من الجلّادين يُعاقبون جلداً لمخالفتهم تلك الأوامر، فقد غدا فعل التعذيب اليومي في نفوسهم، والطرب لصراخ الضحايا، والاستمتاع برائحة الدم، شكلاً من أشكال الإدمان، الذي تصعب مقاومته.
- عناصر الخدمات الإدارية واللوجستية لا وجود لهم في هذا المبحث، ولا يشكلون أيَّة قيمةٍ مضافةٍ، فقسم الأرشيف والقلم والذاتية ومحضّري الطعام، لا يوجد بينهم وبين عالم السجناء وشخوصه أدنى تماس، وليس لهم أي تأثير يذكر، وإشراكهم في البحث لا يقدم أدنى قيمة مضافة.
- جميع الجلّادين أو السجّانين لا توجد لديهم أدنى مساحةٍ تظهر فيها سماتهم الشخصية، سيما بعد الأسبوعين الأولين، حيث يتمّ خلالهما محق شخصيته الإنسانية، وتحويله إلى محض أداةٍ للقتل والتعذيب، أداةٌ يتم غسل دماغها بأقذر الطرق وأفظعها، ودائماً تنتهي هذه الأيام الأولى، بجعله منفذاً رئيسياً لحفلة تعذيبٍ طويلةٍ تمتد لساعات، يكون فيها التعذيب منصباً على ضحيةٍ واحدةٍ، تنتهي بموتها بين يديه من فرط التعذيب، وسيكون الجلاد في نهايتها مضرجاً بدم الضحية التي مزَّق أشلائها بيديه، فيصبح قاتلاً أمام عشرات الشهود، الأمر الذي يقطع عليه أيّ تفكيرٍ بمصالحةٍ أو تعاطفٍ أو تعاونٍ مع مجموعةٍ بشريةٍ، شهدت كيف قام بقتل أحد أفرادها بوحشيةٍ مفرطة، ربما يكون أبسطها تخويفه العميق والمتكرر من مصيرٍ أسود ينتظره إن هو أبدى أيَّ تعاطفٍ أو تهاونٍ في تعذيب هؤلاء المعتقلين المجرمين، السجّانون محض أدوات تنفِّذ التعذيب أو القتل وفق مدونة سلوك صارمة يمكن للعنصر أن يبالغ فيها قليلاً، لكنَّه يعجز عن تجاهلها، ولو فعل لمرةٍ واحدةٍ ستكون فيها نهايته.
- في أصل الاختيار أو الانتقاء، هناك تصنيفات تجري في الأشهر الأولى للخدمة العسكرية “فترة الدورة التأهيلية” حيث تظهر خصائص هذا العسكري الشخصية وتدوَّن، وعلى أساسها يتم اختيار الأكثر أميةً وتخلفاً وعدوانيةً، والأحطّ أخلاقاً، ليكونوا جلادين لا تتأثم نفوسهم من القتل ولا تصحوا ضمائرهم لصراخ ضحاياهم.
- الجلادون في سجن تدمر قسمان، قسم من الطائفة العلوية ويتجاوز بنسبته الثلثين من عدد الجلّادين، وهم مشحونون طائفياً بطريقةٍ مشوهةٍ، تجعلهم ينظرون للسجناء بصفتهم مجرمين قتلة، وهم أحط رتبة من الحيوان، وتعذيبهم وقتلهم أدنى الواجب بحقهم، لكنَّ هؤلاء الجلّادين يتصرفون على سجيتهم، ودون الحاجة للتأكيد على ولائهم للنظام، وهم خارج دائرة الاتهام، فلا يبالغون في أيّ فعل، ولذا ستكون قسوتهم في التعذيب إذا ما قيست بأقرانهم أخفُّ وطأة، أمّا القسم الثاني من الجلادين فهم مكوَّنون من سائر الطوائف، سني، وارمني، ودرزي، واشوري، وغيرهم وهم علاوة على شحنهم كسابقيهم إلّا أنَّهم مسكونون بالوسواس الارتيابي، الذي يدفعهم كلّ لحظةٍ لإثبات ولائهم لهذا النظام، ونفي أية نأمة لتعاطفٍ أو رقة حال تجاه ما يلقاه السجناء على أيديهم من تنكيل يومي، وهذا ما يدفعهم للمبالغة بالتعذيب، وكيل الشتائم وإبداء الغضب الشديد وأعتى مستويات التوحش، في تعاملهم اليومي مع المعتقلين، وشيئاً فشيئاً يتحولون بفعل فرزٍ طائفيّ غير مصرحٍ به، لطبقة اسياد يمثلها القسم الأول، وطبقة تابعين يمثلها القسم الثاني، ويتعدى هذا التقسيم علاقتهم بالسجناء إلى علاقاتهم البينية.
- يعيش معظم الجلّادين حالة فصامٍ حادةٍ، بين ما يعيشونه في هذا السجن كسادة متصرّفين ومطلقي التوحّش والتنمر، وبين ما يعيشونه حال انتقالهم في اجازاتهم خارج جدران هذا السجن، وقد كنّا نسمعهم يتحدثون عن هذا الفرق الهائل الذي يعيشونه بين هذين العالمين، وهم في استراحتهم عند جدران مهاجعنا، فواحدهم يتقمص سطوة الإله الذي يحيي ويميت في هذا السجن وهو يمارس هذه السطوة الرعناء على آلاف السجناء دون حسيب، وطالما قتل العديد منهم بيديه جراء افراطه في التعذيب فلم يلق عتباً او ملاماً، إنَّما يتلقى الثناء والتشجيع، فهو من يطهر الوطن الغالي من هؤلاء المجرمين القتلة، لكنه حين يغادر قطعته العسكرية خارج السجن في يوم إجازة، سيجد نفسه ملزما أن يقف في طوابير الخبز والتموين، شأنه شأن أي انسان في الحي، وطالما بقي واقفاً لساعةٍ في حافلةٍ مزدحمةٍ، بينما يجلس آخرون، الأمر الذي يعزز لديه شعوراً بالدونية هو يحسه ويخفيه أصلاً، وما أن يعود الى السجن حتى يصرخ مأزوماً وشاتما بين أصحابه، فقد لاقى من الذل والمهانة خارج السجن الشيء الكثير، ويصبح أشدُّ توحشاً، وأميل للبقاء بين جدران هذا السجن بدل أن يحظى بإجازاته.
- السواد الأعظم من عناصر الجلادين، وهم من الرتبة الأدنى في الخدمة العسكرية، ويخاطبه رؤسائه ب “شرطي أو عنصر” بدون أداة نداء، السواد الأعظم منهم أقرب للأمية، وهذا واضحٌ من خلال أحاديثهم البينية التي كنا نسمعها منهم خلال استراحاتهم، والتي كانت بالنسبة لنا مصدراً من مصادر المتعة الساخرة، والمعلومات التي يسربونها بحكاياتهم عن أيام الاجازات.
- السجّانون عموماً وأكاد أقول جميعهم بلا استثناء، من أصغر عنصرٍ فيهم وصولاً إلى الضباط القادة يعانون بشكلٍ فاضح، أزمة الأمّي الجاهل مع المثقف، كخصم يفضح ببساطة مدى تخلفه، فهم يعرفون من خلال الأضابير الأمنية التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلّا أوردتها، وفي سجن تدمر ولمراتٍ متكررة كان يطوف بمهاجعنا رئيس السجن “فيصل غانم” ليسأل المعتقيلن وبشكلٍ متسلسلٍ عن دراستهم، وكان يتميز غيظاً حين يكتشف أن السّواد الأعظم من المعتقلين لديه، خريجوا جامعات، فلا يستطيع منع نفسه من ابداء غضبه العارم، فيقبل علينا ضرباً بكلتا يديه وقدميه، ثم يخرج بعد أن يعطي أمره لسائر الجلادين بالإمعان في تعذيبنا، لماذا؟ لأننا نبذُّه تعليما، وهم يعانون أزمة من يحيى حياة القطيع المسحوق، حين يقارنها بحياة من يقاومون ويعارضون الحكام، هم في قرارة أنفسهم، وفي عشرات الجمل التي تنفلت من أحاديثهم، حتى حين يغلفونها بالسباب والشتم، فإنهم يبدون شديد الإنبهار والتقدير لهؤلاء المعتقلين الذين يعيشون بنفوسٍ كبيرةٍ، تجعلهم أنداداً ومعارضين للحاكم الفرد الإله، الذي يتهيبون من إطالة النظر إلى صورته.
- في الواقعة التي سبق لي أن ذكرتها مراراً، عن توبيخ قائد السجن العسكري بتدمر العقيد “فيصل غانم” لعنصر أقدم على قتل أحد المعتقلين، في حفلة التعذيب الأولى “الاستقبال”، حين أسرف في تعذيبه، فكانت عبارة التوبيخ التي تلقاها من قائد السجن “قسماً بشرفي لو كررتها ثانية سأحلق لك شعرك” وفي هذ تأكيد على أن الإدارات في السجون تربي عناصرها على التوحّش، بل تبالغ في تحويلهم من بشر عصابيين شريرين، إلى وحوشٍ ضاريةٍ لا ترتوي من رائحة الدم وصراخ المعذبين.
- مناقشة شخصيّة السجّان كما وردت في أدب السجون، مسألةٌ مقيّدةٌ في هذا الاطار “أدب السجون” الأمر الذي يغيب عن القارئ، وربما الباحث في بعض الأحيان، فالروائي أو الأديب ليس لأفق إبداعه محددات، فله أن يضفي على شخصيته الروائية ما يراه أو يحسه من صفات، قد لا تتطابق مع الوقائع التي عاشها المعتقل أو غيره من المعتقلين فعلاً، الإشكال الذي يعتري هذه المسألة عندما نحاول أن نعمم خلاصات بحثنا في شخصية السجان في أدب السجون، لنجعل من خصائصها “إن هي وجدت أصلاً” خصائص عامة يمكن أن نسم بها السجانين، وهذا ينطوي على مبالغة وتشويش واضح، ربما يحسن بنا حينها التفرقة بين عملٍ توثيقيّ، وعملٍ روائي أو أدبي، ففي العمل التوثيقي لنا أن نحاسب الكاتب على دقَّة روايته أو صحتها، بينما لا يحق لنا هذا أبداً في الأعمال الإبداعية، وخاصة الرواية أو الشعر وحتى المسرح.
- البلديات في سجن تدمر هم عناصر سخرة وخدمة وهم أقرب ما يكونون للعبيد، يتعرضون للذل والاهانة بشكل مستمر من قبل عناصر السجن ويُضربون في كثيرٍ من الأحيان، وينفذون أعمالا شاقة في نقل الخبز والطعام وبأوزان ثقيلة بشكلٍ يوميّ، من ساحة الطعام الى سائر الساحات والمهاجع، وربما حصل على ندرةٍ من الأمر، أن يأمرهم بعض الرُّقباء القيام بتعذيبنا وضربنا عوضا عنهم، للسخرية والتندر ليس إلّا.
- يبقى الإشكال الأشدُّ بعد هذا المرور العام، في عدالة المحاسبة لو حصلت يوماً ما كما يتمنى الكثيرون وأنا واحد منهم، كيف لنا أن نحاسب سلسلةً من المجرمين بدءً من الوزراء أو رؤساء فروع الأمن، أو قائدٍ لسجن أو العناصر والجلادين، ونحن نعلم بدقة أن أيَّ فردٍ من هؤلاء، على تباين مواقعهم من تلك المنظومة القمعية، هو بذات اللّحظة مقموعٌ إلى أقصى درجات القمع، التي تخيّره بين الانصياع والامتثال والإيغال في القتل والإجرام أو الموت بأشنع الطرق، إشكاليةٌ لا أظنُّ أنه من اليسير الفصل بها، مع أنها قد تفتح باباً لتسطيح الأمور وتمييعها، وإهدار حقوق الضحايا، واعتبار المجرمين أنفسهم كضحايا، مع انهم في وجه من الأوجه هم كذلك بلا أدنى شك، لكن هذا لا يلغي بشكلٍ من الأشكال مسؤوليتهم الكاملة عن كل ما فعلوه، وهذا يحتاج لحديث وبحثٍ طويل.
*حرمون