محمد السيد إسماعيل: إنعام كجه جي تقص حكايات القهر في “بلاد الطاخ طاخ”

0

“بلاد الطاخ طاخ” هو عنوان إحدى قصص مجموعة الكاتبة العراقية إنعام كجه جي الجديدة، والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة بعد عدد من الروايات، منها: “سواقي القلوب”، و”الحفيدة اللبنانية”، و”طشاري”، و”النبيذة”، ما يعني غلبة الأعمال الروائية على إبداعاتها، وهو ما ترك أثره على تلك المجموعة القصصية، حيث كان القهر – بظواهره وأنواعه المختلفة – هو إحدى التيمات التي جعلت من القصص تنويعات محتلفة حول هذه الدلالة المركزية، وهي تيمة تأتي متجاوبة مع السياق العام الذي كتبت فيه تلك المجموعة، سياق الاضطراب العربي في أوائل التسعينيات، والذي انتهى بالغزو الأميركي للعراق، وما ترتب عليه من شتات عراقي في المنافي. وفي قصة “بلاد الطاخ طاخ” تتخيل الكاتبة الحاكم المستبد، وقد أصبح تمثالاً من الشمع، لكنه يظل محتفظاً بقدرته على الحركة ومساومة الحارس حتى “يحرره من تلك الوقفة الأبدية. تمثال شمعي لامع لا حول له ولا قوة، حبيس مخزن بلا شباك، لا يعرف ليله من نهاره. نهاية لا تليق بأمثاله من القادة الأشاوس”. لقد أصبح حكام العالم زعماء عاجزين وانقلابيين، محبوسين في هذا المخزن الذي امتلك “الأشوس” حرية التجول فيه ومشاهدة فيلم يتم تصويره عنه. يهبط لينقذ الفيلم من “الميوعة”، ويقترح على المنتج والمخرج أن يؤدي هو دور البطولة. فليس هناك من هو مثله. وينجح الفيلم نجاحاً باهراً وتمتدح الصحافة “الوجه الجديد الموهوب”.

الفانتازيا القصصية

تلجأ الكاتبة إذاً إلى الفانتازيا لتدلل على أن آثار الاستبداد مستمرة حتى بعد موت المستبدين. وقد تجلى هذا الاستبداد والقهر بدهاء في قصة “مسدس من ذهب” حين يصف الراوي الرعب الذي انتابه، يوم استدعائه لمقابلة حاكم البلاد الجبار. وكانت المفاجأة أنه استدعاه ليمتدح قصيدته الجديدة. ويندهش الراوي بهذا الإعجاب، ويتساءل: “أيعجب فارس مثله بشعر لا وزن له ولا قافية؟ كلام مرسل هبط على خاطري في ليلة أسرفت فيها بشرب العرق، فتفتحت شرايين قريحتي، ورغبت في التحليق مثل طير، في الفضاء”، لكن ما غاب عن الراوي هو فطنة الحاكم في الوصول إلى دلالة التحليق التي تعني الهروب من واقع مؤلم. فيحاول الحاكم تدجينه وتوريطه بهذه الهدية التي لا يعرف الراوي ماذا يفعل بها، إذ “ماذا يفعل شاعر بمسدس؟”. وبالفعل، تأتي الهدية بأثرها المطلوب حين تشلّه وتشتّت فكره فيصبح غير قادر على كتابة أي شيء بسبب خوفه “من الصور والمفردات، ومن خيالاته التي تودي به إلى التهلكة”. ينقذه زوج شقيقته الكبرى، فيقوم بترخيص المسدس باسمه. وعلى الرغم من أن صهره قد أهداه الكمبيوتر الذي كان يتمنى شراءه، فقد هجره شيطان الشعر.

إن مجرد مقابلة الرئيس، وضعت هذا الشاعر في مأزق وملأته بالهواجس ولم يعد قادراً على اتخاذ أي قرار، الأمر الذي جعل الشعر يهجره إلى الأبد. ويتكرر الأمر – بصورة مختلفة – مع قصة “المترجم رجب” الذي ظل ملتزماً في وظيفته حتى أصبح المترجم الخاص لـ”صاحب الفخامة”. وهنا تتبدل حياته وتشغل الوظيفة كل أوقاته ويصبح كثير الأرق. اللافت هنا هو أنه أصبح مفتوناً بنفسه إلى حد يقترب من الهوس، “موقناً أن لا أحد سواه يمكن أن يقوم بما يقوم هو به… وأن لقاءات صاحب الفخامة تصاب بالشلل إذا تخلف هو عنها، وأن مصلحة البلد بأكمله تتوقف على مهارته في نقل المحادثة”.

ملهاة ومأساة

غير أن سقطته التراجيدية التي جعلت مصيره أفدح من مصير الشاعر في القصة السابقة، تقع حين يتوقف “صاحب الفخامة” عن الحديث، لكن المترجم لم يتوقف، “راح يلوح مهدداً الدول الكبرى، شاتماً سباق التسلح، متأسفاً على الحضارات الإنسانية المهددة بالفناء”، حتى صعد إلى المنصة رجلان اقتادا هذا المترجم الذي انفجر بعد كبت طويل من كتفيه إلى خارج القاعة. وفي هذا السياق تأتي قصة “صورة المرحوم،” التي تجمع بين الملهاة والمأساة وتقترب من الكوميديا السوداء. فهي تحكي قصة امرأة جزائرية تدعى “هوارية”. اسمها أطلقه عليها عمها الكبير إعجاباً بالرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين.

تبدأ أزمة هذه المرأة حين تذهب لتنظيف عقار مملوك للدولة الجزائرية في فرنسا وتحدث المفاجأة حين ترغب في دخول الحمام. تقول: “فجأة رأيته يخزرني، فتيبّس جسمي، نظرة صارمة ومخيفة تطالعني من صورته المركونة وراء الباب. سي الهواري في الزاوية مع الكراكيب”. يحتبس البول داخلها، حيث “لا يمكن لامرأة مثلها أن تقضي حاجتها في حضرته”. وعلى الرغم من محاولات الراوية علاج “هوارية” التي ظلت أسبوعاً لا تستطيع التبول، فإنها تفعلها عندما ترى صورتي بومدين وحسام أبو راس، أحد شهداء حرب لبنان، متقابلتين بعد سنوات من موتيهما، الأول في الجزائر والثاني في لبنان.

بين الواقعي والأسطوري

وفي تصوري، إن قصة “الخوافات” تعد من أفضل قصص المجموعة، فهي تجمع بين الواقعي والأسطوري والرمزي، وتحكي قصة سبع شقيقات: “عاتكة” المصابة بالسرطان، والتي بُتر أحد ثدييها ووضع مكانه ثدي بلاستيكي، و”عفاف” التي تخاف من زوجها، ومن تجريحه لها لأنها أحبّت قبله زميلاً لها في الجامعة، لكنه سافر إلى هولندا لإكمال دراسته ولم يعد، و”عاطفة” العانس التي تخشى مرور الزمن، و”تضع وجهها في وجه المرآة ساعات طوالاً تتحسس التجاعيد الصغيرة”، و”وصال” التي لا تخشى أحداً قدر خشيتها من مديرها في العمل، فانتسبت إلى “الحزب” على الرغم من أنها لا تفقه شيئاً في السياسة، وذلك لمجرد أن تتحصن إزاء مديرها، “منال” التي تخاف على خطيبها الذي ظل في الجيش مرهوناً بإنهاء الحرب، فذبلت، وخبا بريقها، وتحجرت نظرتها، و”منى” التي لا تخشى إلا ذاتها وعواطفها الجامحة ونزواتها العنيفة، وهي تعرف أن كل هذا يقودها إلى الدمار. أما الأخت السابعة فهي الراوية التي كانت أقرب إلى شخصية الأم في علاقتها بشقيقاتها. فهي تخاف عليهن، وتخشى المرض والموت وكل رؤسائها في العمل، ثم تحدث النقلة المغايرة في حياة هؤلاء الشقيقات حين تقرر الراوية أخذ أولادها في رحلة، فترى عالماً آخر يحوي كل ما تفتقده في مدينتها القديمة. وفي طريق الرحلة تصعد الشقيقات واحدة بعد الأخرى وهن أكثر نضارة حتى إن قميص “عاتكة” قد انكشف “عن نهدين مُترعين بالعافية”. وتلخص الراوية الحالة كلها بأن هؤلاء الشقيقات السبع “استعدن رشداً فقدنه من قسوة الخوف”. لهذا رفضن رغبة السائق في العودة بهن. فالعودة تعني الرجوع إلى حالتهن الأولى. لقد أصبح هذا السائق رمزاً لكل ما عانيننه لهذا عزمن على التخلص منه حين “هجمت عليه عاتكة محلولة الشعر مكشوفة العافية خارجة من حصار المرض. أطبقت على رقبة الوحش المزمجر من دون تردد”.

الصراعات المذهبية

وفي قصة “الكاميرا الأولمبس” تتعرض الكاتبة للصراعات المذهبية من خلال قصة “منيف السالم” الذي حمل كتباً تتعلق بعقيدته وذهب إلى جزيرة سيشل للتبشير بها، لكن “ما بين سفره وإيابه كان العراق قد تحول من من الملكية إلى الجمهورية، وتلا ذلك عدة انقلابات، وكل عهد يشطب على ما قبله ويفتح صفحة تلائمه ويصبح ما لا يروق السلطة تهمة تعرض صاحبها للسجن إذا هو جاهر وبشر بها”. وفي قصة “عمياء في ميلانو” تحكي الراوية قصة طريفة، قصة انتقالها من الرؤية بالبصر إلى الرؤية بالبصيرة. تقول: “شددت على عصا العميان البيضاء بكفي اليسرى وسرت أتلمس خطواتي في العتمة. إنها حماقة أن يترك إنسان مبصر عينيه في المشجب، ويدخل دنيا الظلام”. وتتم هذه التجربة في معرض يدعى فيه زائر ميلانو لقضاء ساعة من الزمن في عالم المكفوفين، ولا بد أن يكون دليل الزائر أعمى لكي تكون التجربة حقيقية. ولكي يصل الزائر إلى أعماقها ويستطيع أن يعرف “كيف للبهجة أن تنبثق من العمى؟”.

إنها تجربة أقرب إلى التجربة الصوفية التي تستثير قدرات الروح، وتجعلها بديلاً عن إدراكات الحواس، بخاصة البصر. هذه العلاقات الروحية مع أشياء الطبيعة، والتي تقوم على المحبة نجدها في قصة “نخلتي”، حين تقول الراوية: “احتضنت النخلة لأنني وحيدة مثلها نائية عن مدينة اجتثوا إنسانيتها. أرض الثلاثين مليون نخلة”. وقد يكون هذا التعلق بشيء مادي ترتبط حالاته بحالات الراوية ويتوحد مصيراهما. تقول في قصة “مرآة كرداسة”: “كبرت وتراجعت قواي. شاخت مرآتي فازدادت قيمتها بنظري”، بل إن هذه المرآة – كأنها مرآة الذات – قادرة على الإيحاء للراوية وتفسير ما يحدث في العالم، حيث “سقطت بروج نيويورك وقام زلزال في العراق وطلع ربيع في مصر وأنا أنفعل وأفرح وأشتم وأهرب من الشاشة إلى مرآتي لعلها بحكمتها تشرح لي ما يجري من فوضى”.

وأخيراً، يمكن القول إن المجموعة يغلب عليها استخدام ضمير المتكلم باستثناءات قليلة تستخدم فيها الراوية ضمير الغائب، كما تستخدم – بالإضافة إلى السرد الآني أو الاستشرافي – السرد الاسترجاعي. تقول في قصة “مرارة”: “سبحت في فضاء آخر يبدو لأنني مضيت إلى البقعة البعيدة التي نبعت منها أول ما نبعت”. وأحياناً تصور الموت المتكرر على مدار المجموعة في صورة استعارية قاسية. تقول: “الموت الذي يحصد الأقارب والأصدقاء هو مثل كف شرهة تقطف الأنفاس ولا تشبع”.

*اندبندنت