يحاول الكاتب الروائي والمسرحي السوري (ضاهر عيطة) في روايته (ملاذ العتمة) الصادرة حديثاً عن دار موزاييك للدراسات والنشر، الخروج عن السائد في روايات الحرب السورية؛ من خلال الولوج إلى العالم الداخلي النفسي لشخصياته، التي تمثل طرفي المعادلة (عاطف، غفران) بالإضافة إلى الطرف الثالث ذو التأثير المهم والحساس في المأساة السورية، وهو الإنسان الأوربي الذي تمثله شخصية (سيلينا)
تبدأ الرواية في أوربا، أي بعد سنوات من انطلاق الثورة السورية، ثم تعود في نقلات قصيرة “فلاش باك” إلى الماضي القريب في دمشق، نتعرف من خلالها على الرابط المشترك بين الشخصيات، وعلاقة الحب المضطربة والغريبة التي جمعت الشيخ عاطف، إمام المسجد المؤيد للنظام حد تكفير من يعارضه، بغفران ابنة الشاعر المعارض الذي قضى نحبه في أحد المعتقلات التابعة للمخابرات، وعلى الرغم من سيطرة هذا الحب، المشوب بالرغبة والشبق، على حواس كليهما بشكل لا إرادي عنيف؛ إلا أنه لم يمنع وقوفهما على طرفي النقيض في هذه الحرب، فيدخل العشاق الأعداء في دوامات وتناقضات نفسية هائلة تجاه هذا الحب، تتنافى مع الموقف الثابت الشرس تجاه ما يجري.
تزداد هذه الدوامات تعقيدًا بدخول الطرف الثالث (سيلينا، الصحفية القادمة من ألمانيا) وهنا تكسر الرواية أسطورة إنسانية الأوربي وسعيه إلى إنصاف الضحية في كل الأحوال، فمواقف الإنسان مرهونة بمشاعره، وهذا ما يتضح لنا حين تصبح سيلينا محكومة بشغفها بعاطف وغيرتها من غفران؛ ما يجعلها تتجاهل ما يجري أمامها من إجرام ومجازر، وتركز سعيها فقط في الوصول مبتغاها (أن يحبها عاطف كما أحب غفران)
تدخل الرواية من خلال علاقة سيلينا بعاطف في منحى سيكولوجي، حيث ترصد تفاصيل إحدى العقد النفسية الخفية الناتجة عن الهيمنة الذكورية في العلاقات العاطفية والجنسية، حين تعمد سيلينا إلى إلغاء وجودها وتقمص شخصية غفران؛ إرضاءً لفارسها الشرقي ورغبة في استثارته الدائمة على أمل أن تتحول دفة عشقه باتجاهها هي.
تستمر الحكاية في أوربا، مع مزيد من التساؤلات الوجودية المتعلقة بأسباب تعلق الضحية بجلادها، ومسؤوليتها تجاه من أزهقت أرواحهم على يده، والعدالة في أن تعيش الضحية شقاءً لا مفر منه بينما ينعم الجلاد بحياة هانئة حتى في المنفى؛ في حين يستمر القاتل العاشق في البحث عن فردوسه الذي تبعه إلى ألمانيا، وتستمر سيلينا بمحاولة امتلاك قلب ذلك القاتل بمزيد من التنازل عن كيانها، وأسئلة أخرى تتعلق فيما يريده كل واحد منهم من الآخر؛ وتنتهي الرواية بانفجار مدوّ يمثّل انتقام الضحية، استطاع الكاتب تصوير الحدث بطريقة ذكية تشعر القارئ أنه يشاهد فيلمًا سينمائيًا يرصد عوالم الشخصيات جميعها، النفسية والحسية في آن.
تعالج الرواية أيضًا تغير الموقف الأوربي بين بداية المذبحة السورية إلى اليوم، من خلال شخصية جدة سيلينا المقيمة في جيرة ليسبوس اليونانية، التي كانت تتعاطف حد البكاء مع الغرقى في رحلة الوصول إلى أوربا وتحتفظ بأشيائهم التي تطفو على الشاطئ، وتتبدل الحال في نهاية الرواية لتصبح هذه الأشياء الطافية تجارة مربحة بالنسبة لها. جاءت الرواية في (240) صفحة من القطع المتوسط، وتتمتع بإيقاعية منسجمة وناجحة من خلال تنظيم الأحداث في إطار يتناسب مع بناء الرواية الكلي، ومن حيث تشكّل عالم الشخصيات الداخلي والخارجي ورصد أفعال وردود أفعال الشخصيات المختلفة، معتمدًا أسلوب السرد الذاتي الذي هيمن على بنية النص وتناوبت فيه الشخصيات الثلاث، عبّرت من خلاله كل شخصية عن عالمها الخاص وتشظيها وتساؤلاتها بلغة رشيقة قريبة إلى المألوف بعيدة عن الشعرية أو الاستعراض اللغوي الفج.
*خاص بالموقع