متلازمة السجن والمسرح.. خارج الزمن داخل الوطن

0

عبد الناصر حسو

ناقد مسرحي سوري، مقيم في ألمانيا، أستاذ سابق في المعهد العالي للفنون المسرحية، أمين تحرير مجلة الحياة المسرحية سابقًا، له العديد من الكتب والدراسات النقدية المنشورة

أوراق 11

ملف أدب السجون

أثبت العرض المسرحي، كونه حدثاً افتراضياً ثقافياً مفتوحاً يتجاوز حيز الخشبة، أنه لا زال يمتلك العديد من الوسائل المختلفة للتعبير عن الواقع من خلال لعبة التمثيل، وساهمت هذه الوسائل في كشف القناع عن الوجوه، وتعرية مواقف أنظمة الحكم والسلطات وفضح الديكتاتوريات ونقد المظاهر السلبية في الحياة، ودعا المجتمعات إلى الوعي بضرورة الثورة على الأوضاع السيئة، وبذلك ساهم في تصدير الثورة وليس في القيام بالثورة، كما قال أوغستو بوال: ينبغي دعم الثورة ليس من خلال الفعل السياسي فحسب، إنما من خلال الفعل الثقافي والتعليمي والاجتماعي أي من خلال ابتكار منظومة تربوية متكاملة تستطيع انتاج ذهنية جديدة للمواطن تضمن المشاركة في الديمقراطية والمساواة والحرية.

وبذلك، تخلص من قبضة الأنظمة، بل تمرد عليها، وراح ينصب خيمته في أزقة معتمة مشاركاً الجمهور الذي يردد بصوت عال: الشعب يريد إسقاط النظام، في ذات الوقت الذي يفسح المجال لرصاصة انطلقت باتجاهه كي تمر بسلام أو يراقب طائرة أفلتت منها كتلة ضوئية ليست لإضاءة الخشبة والمناطق المعتمة في الأزقة المظلمة، فاستبدل هذا العرض استراتيجيته بتأثير من ثورات الربيع العربي، واستغل وسائل التواصل الاجتماعي والالكتروني لإيصال صوته إلى العالم عبر مجموعة من الذواكر النابضة بالحياة.

عرض الكرسي الألماني

ارتكزت الكتابة المسرحية الجديدة على تقليد راسخ من الواقعية، واقعية التمثيل على خشبة المسرح التي هي أداة لتحليل الواقع الاجتماعي والنفسي للمجتمع ومواجهته دون وسائط، تمثيل الواقع في السجن، هو تمثيل يعتمد على الذاكرة الذي يولّد الخيال وليس واقعاً حقيقياً، يتأثر ويؤثر على ديناميات قوة الواقع نفسه التي تكمن في التمثيل، مسرحيات أو عروض مسرحية تمثل واقع السجن بغض النظر إن كان العرض داخل السجن أو خارجه، ففي الداخل هناك مخاطر عديدة، وفي الخارج قد يتحول الواقع إلى ذكرى بعيدة، وهذا يعتمد على مدى قدرات وامكانيات الممثل، المؤدي.

لم تكن قضية السجن موضوعاً فكرياً، سياسياً في المسرح بقدر ما هو موضوع متشعب الإشكاليات ذات فاعلية مغرقة في الواقع بكل تجلياته، إلا أن القضية ليست الواقع كله، قد تكون مساهمة في إحداث تشظٍ أو تطهّر في الحالة النفسية والاجتماعية للمعتقل نفسه، لذلك، تناول المسرح كغيره من الأشكال الفنية والتعبيرية موضوعة المعتقل أو المعتقلين السياسيين، نصاً وعرضاً على مدى تاريخ الاستبداد. وبالتالي فالعلاقة بين السجن والمسرح قديمة قد تعود إلى المسرحيات الدينية في القرون الوسطى وإعدام المجرمين أو رميهم في النار أمام جمهرة من المتفرجين المؤمنين، ورغم محدودية هذه العروض داخل السجون فيما بعد، فقد انتشرت بشكل كبير في الوطن العربي في السنوات الاخيرة بصياغات متعددة ومختلفة. هنا يتساءل الدرس النقدي المسرحي، من الذي يفهم معاناة المعتقل أكثر من المعتقل نفسه؟ ومن الذي يعاني ويلات التعذيب أكثر من المعتقل بعد خروجه، أو نجاته؟، لكنهم لا يجيدون التمثيل، ولا يمارسون فن التنكر، أو على الأقل معظمهم لا يستطيع، فهل هذا عرض مسرحي أم بيان لجان حقوق الانسان حول المعتقلين؟ كما يرى النقد، لكن المعتقلين بحاجة إلى أن يعرضوا تجاربهم الذاتية أمام جمهور غفير لإعادة التوازن، نفسياً وروحياً ومعنوياً عندما يعتلون الخشبة، ويستحضرون شهاداتهم الحية وتجاربهم المريرة رغم اختلاف الظروف.

اكس عدرا

في هذا السياق الاشكالي، اقترح الكاتب جان جينيه في ملاحظاته الاخراجية حول مسرحية “الزنوج”، أن يؤدي دور الزنوج، ممثلون لهم بشرة سوداء للتعبير عن الاحساس والتأثير على الجمهور، هل يوجه الممثل أداءه إلى عالمه الخارجي أم إلى عالمه الداخلي؟، كما أن الباحثة المسرحية الالمانية كريستل فاير عام 2016، طرحت أيضاً مسرحة قصص اللجوء وتجاربهم “مسرحة الشهادات الحية” الذين وصلوا إلى المانيا مؤخراً مع مجموعة من الممثلين الألمان، بأن يُمسرح اللاجئ نفسه تجربته إذا رغب في ذلك على خشبة المسرح.

هذه المرويات الشفهية كسردية ديناميكية مؤثرة يعتمد استحضارها على الذاكرة النابضة بالحياة، ليس توثيقاً بالمعنى التوثيقي، بقدر ما هي بوح بصوت عال، يمنح الممثل/ المعتقل روحاً وأحاسيساً صادقة، تشكل جزءاً من شخصيته، وتحرره من الظلم وتخلّصه من الآثار التي تثقل كاهله، بمعنى تطهير الممثل والمتفرج، في النظرية الارسطوطاليسية، هذه المواقف والتجارب، رغم ذاتيتها إلا أنها انتقائية، مختزلة، تشكل جمالية فنية، لا تلخص سنوات الاعتقال، إنما هي بعض مشاعر المعتقل.

العديد من المسرحيات العروض السورية التي شكلت موضوعة السجن عنواناً لها، والمتابع للحالة المسرحية في السنوات الأخيرة يلاحظ استبدال سؤال “كيف، بـ لماذا”، اُستخدم المسرحيون السجن والسجناء موضوعاً راهناً في الساحة الثقافية. نستعرض هنا تجربة مسرحة شهادات المعتقل في عرضي “الكرسي الألماني” بمساعدة المخرج اللبناني رامي نهاوي، و”واي صيدنايا” للمخرج السوري رمزي شقير، معتقلون سابقون يُمسرحون تجاربهم ويسترجعون ذكريات التعذيب في سجون سوريا على خشبة المسرح، حكايات حقيقية انتقائية، مختزلة حدثت مع أشخاص حقيقيين لا زالوا يعيشون، يمثلون في العرض ذواتهم البشرية. تتقاطع أحداث التجارب في معالجة درامية تهدف إلى محاكاة حقيقية حول ما يجري حتى الآن في سجون سورية، لم تكن الحكايات محض خيال وليست حقيقية تماماً، بل يمتزج الخيال بالواقع ليتمكن المعتقل العيش مع المعاناة على الخشبة، وقد يكون الخيال على خشبة المسرح هو العقل في أسمى تجلياته جوهر الابداع.

واي صحنايا

يمثل عرض “واي صيدنايا” قصص معتقلين ومعتقلات من سجن صيدنايا كعنوان واللافت أن من يؤدي الأدوار في هذا العرض هم سجناء سابقون، ويحملون آثار الاعتقال والتعذيب والتي يمكن أن ترافقهم بعد خروجهم من السجن، يقول أحدهم: “نحن لا نمثل، نحن نتذكر ما عايشناه فقط، والمسرحية هي طريقة للتحرر من آثار تلك التجربة المريرة”.

إنهم يُعبرون عن آلامهم وأحاسيسهم الصادقة بما يَعملون، ويصنعون في الوقت ذاته عوالم حقيقية من خلال تجاربهم الذاتية، هنا يركز الممثل على إيصال الفكرة والتعبير عنها أكثر من اهتمامه بالشكل الفني/ الجمالي، قد تكون الفكرة سياسية أخلاقية اجتماعية بصيغة فنية أمام جمهور مغاير لم يعش تجربة السجن، لذلك، تكون نبرة الصوت وملامحه، تشكل شخصية الممثل باعتباره يؤدي دوره، هنا تنتفي المسرحة وتتحول العملية إلى استعادة حالة التجربة والتعذيب، طالما لكل واحد خصوصية نابعة عن خصوصية التجربة والشخصية المؤدية. قد يخرج هذا الممثلـ المعتقل عن دوره لأنه لا يمثل دوراً فهو يمثل نفسه في هذه التجربة، وبالتالي يمثل مشاعره المستحضرة في اللحظة الحدث الأول، وبالتالي تختلف التجربة أقلها زمن الحدث في السجن وزمن الأداء على الخشبة أمام جمهور حي متفاعل. 

يتشابك الواقع بالتمثيل، حيث تمثل مجموعة الممثلين والممثلات أحداثاً وتجاربَ أو ما جرى معهم جميعاً كل على حدة داخل السجن في زمن ما/ يمثلون تجاربهم الذاتية على الخشبة أمام جمهور ما، وقد تنعكس هذه التجربة على أرض الواقع، وقد لا تحدث تأثيراً عاطفياً تحريضياً، كون الممثلين يمثلون أنفسهم ويؤدون أدواراً، قد يتماهون في الدور أو يبتعدون عنه، هنا تتدخل الذاكرة لإحياء التجربة الأولى ليس كطقس أو حدث، إنما تمثيلها واستعادتها، قد تحذف أو تضاف أحداثاً لم تكن موجودة، وهم يخلقون توتّراً طقسيّاً يخضع للقواعد المسرحية، ويدركون أن من يعذبهم الآن ليس السجان إنما صديقه السابق الذي أخذ دور السجان رغم أنه يدرك حقيقته أنه كان سجيناً، تتغير هنا الشحنة الانفعالية التي تظهر على حركته وملامحه ونبرة صوته.

كما أن عرض “المنفردة” الذي قدمه نوار بلبل ورامز الأسود منذ سنوات يتناول موضوعة السجن والسجناء السياسيين، وهي حكاية متخيلة، محتملة الحدوث في كل الظروف، يتلقى السجين رسائل من زوجته التي تحثه على الصمود وعدم التوقيع لترك العمل السياسي، خلال جلسات التعذيب، يهربها السجان له نفسه، وأثناء العرض تظهر اللمحات الانسانية التي تظهر الضعف الانساني في الطبيعة البشرية، حيث يتحول الاثنان إلى سجناء ضمن عملية التحول من يملك السلطة ومن يملك المعرفة.

نوار بلبل

فيما يتميّز عرض سلالم عن العروض السابقة التي اشتغلت على تيمة السجن، بأن مخرج العمل غسان جباعي كان معتقلاً سياسياً سابق، لذلك قدم عرضاً يمتاز بالقيمة الفنية العالية خاصة لجهة التقنيات البصرية والسينوغرافيا ومشهد الأحلام التي تنسجم كلها مع موضوعة التوق إلى الحرية عبر حالات التشتت والتشظي الإنساني، في محاولة الشخصيات/ السجناء الصعود إلى الضوء إلى النور من خلال السلالم. 

أخيراً: يهل يستطيع المسرح أن يبدل أثوابه الثقيلة كلما تعرض لأزمات لأسباب سياسية وفنية لاستيعاب ذهنية المرحلة ومواكبة التطورات الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية؟

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here