علي الكدرو، قاص سوري، ومدير منتدى الركن الثقافي.
أوراق 19- 20
القصة
قبل أن تصفرَّ ورقتي وتسقط، كان موضعي بينكم كموضع الراقصة من خصرها، يُغالبها النعاس دوماً فلا يفززها سوى شهوة الأصابع اللاهبة وحماس الطبالين المحموم ليلاعبوه على شهوة الأعين التي تسرطها قطعةً .. قطعة.
أمَّا الآن فلي موضع آخر غير الذي كان بينكم، موضع ليس به الفوق والتحت ولا اليمين واليسار، لا يخالطه زيف الألوان، ولا أوهام السادة النجباء، الكل فيه يلبس لوناً واحداً، ويرقد رقدة واحدة، وينتظر موعداً واحداً.
موضعاً أينما اتَّجهتَ به فثمَّ وجهك ولا أحد سواك، وكل ما يُشاع عن أهواله وعذاباته، ليس إلاَّ محض افتراء، فها أنا ممدد بين أجنابه لا شغلة لي سوى التسلّي بمراقبة عورات المارين من فوقي “وخاصة النساء”، ولا يمكن لأحد أن تجرأ يوما ليكدر خاطري ولو بهمسة.
* * *
لا أخفيكم .. في البداية تعسَّرت أموري بعض الشئ، لذا أنصحكم بضمان المغسّل قبل موتكم، لئلا تقعوا كما وقعت، وإذا استشعرتم بالموت فجأة قبل دنو الأجل، ولم تضمنوا مغسلاً مكفولاً أنصحكم أن تضعوا أجسادكم أمام فوهة مدفع لتجعلكم أشلاءً يحار الكلب في لملمتها، حتى تفوّتوا الفرصة على مثل هكذا نذل وأمثاله من “كتَّاب التقارير”.
أبو محمود وما أدراكم ما أبو محمود …؟
كانت لحظات لا تعادلها سوى لحظات الغرغرة وهو يجرجرني فوق دفة الغسيل ويقلبني بين يديه كأنما يقلِّب مومساً استفرد بها ليقضي منها حاجته على عجل، يسكب عليَّ الماء الحار دون تفتير، ويتركني عمداً أسلت عن الدفة ليشهلني من أذنيَّ مدمدماً (أذن بأذن والرأس زيادة)، والأصعب من هذا وذاك أفانينه وهو يدكُّ لفافة من القطن حتى تغلظ ثم يفتِّلها أمامي طاحراً كما لو أنه يريد دحسها بقفا بعير.
ولكم تمنيت لحظتها أنه لم يخرط أمعائي لدرزته بمرشاق منكه من رأسه حتى أسفل قدميه، وأقسم لو أنه يقع بين يديَّ يوماً لدحست بمؤخرته مواعيناً من الورق بدلاً من القطن المندوف.
ما علينا ….
فبعد أن غادرني المشيعون إلى حيث عزائي دخل عليَّ ملكان، نزعا عنّي الكفن ووقفا على رأسي يتأملان، أحدهما يلبس بزة عسكرية ويراقص بين يديه هراوة ملساء رأسها مدبب هي أقرب ما تكون إلى (دبوس الجير) الذي تستخدمونه في تفاهماتكم المعقدة، والآخر يتأبط دفتراً عتيقاً ويشكل خلف أذنه قلماً مبرياً كرأس الإبرة.
أظنه جاء ليكتب محضر موتي ….
لكزني صاحب الهراوة مرتين أو ثلاث على مواضع من جسدي جعلت رأسي يضرب سقف القبر من شدة الضحك، التفت نحو صاحبه هامساً:
– تأكد من ضابطة القبر.
جال الأخير بنظره الحاد بين جوانب قبري وعلى الفور امتشق القلم من خلف أذنه ودوَّن في زاوية دفتره (مطابق).
عجبت لأمرهما كيف لا يعرفان أن هذه المساحة هي المكان الوحيد الذي يُفَصَّلُ على حجمك، وما سواها من مساحات غالباً ما تكون فضفاضة متهدلة، كما هي مساحة القضية التي كانت ممتدة من البحر إلى البحر.
ما علينا ….
داهمني صاحب الهراوة آمراً:
– عَرِّف عن نفسك.
ثم زجرني .. أجبْ:
ولأني كنت بينكم وأعرف كيف تدار الزوايا بعدما سَرطنا بلداً بأكمله ووقفنا على أبواب الأمم نتضوّر جوعاً، أجبته بخبث ودهاء كما لو كنت أتدرب على مقدمة خطبة عصماء:
“أنا .. أنا ربع مثقف، ونصف سياسي، ونسونجي متقاعد، وعندما أخاف من قول ..لا .. أصمت ولا أقول .. نعم ..”.
تناوبت نظرات الملكان إلى بعضهما دهشة من جرأتي، ثم انفجرا ضحكاً وقهقهةً، وكان التصفيق والهتاف المحتدم من الموتى قد عكر صفو القبور، وشتت شمل الهدايف، وأجفل للتو جنازة رمت بميتها أول منعطف لتلتهم مسارب القبور أفرادها كما لو أن جوقة من الكلاب المسعورة تطاردهم.
كاد الحماس لحظتها أن يأخذني، لولا صوت كخيط العطر المنسلّ من رقبة حسناء كان يوشوشني مؤنباً (دع الموتى يدفنون موتاهم).
ما علينا ….
استرخيت من جديد وكأنِّي في بداية موتي تاركاً للملكين فسحة من الوقت حتى يستجمعا شيئاً من هيبتهما التي انفرطت أمام الأموات.
مدَّ صاحب الهراوة هراوته إلى محاشمي من جديد وبدأ يقلبهما مدمدماً:
قلت لي .. نسونجي متقاعد هاا!؟.
ثم فجأة التفت إلى زميله آمراً ..أكتبْ:
يرفع محضر موته إلى صاحب الجلالة، مع اقتراح التفل على وجهه حتى يغشى عليه، لأنه خرج من الدنيا ولم يفهم شيئاً كـ (جبر من حضن أمه للقبر).
وبعدها اختفيا دون أثر.
ما علينا ….
مع تباشير الصباح الأولى تباوع الجار عليَّ مصبحاً:
– صباح الخير جار.
مفرداً يديه بالدعاء لي:
اللهم أجعله من المتفول عليهم، وأبعد عنه شبهات الخوزقة.
آمين يارب العالمين.
ثم مسح وجهه وأردف مازحاً:
– عصّبْ راسك ياجار.
كان للأموات عادة يمارسونها على كل النزلاء الجدد ليعرفوا إلى أيِّ الطائفتين انفرز..؟، وقبل أن ينسحب معتذراً، دعاني لأن أكون كما الاسفنجة أمتص كل الأشياء ولا أرتعد.
خوزقة!؟ يالطيف، ياستار، كلمات كنت أرددها وأنا أتحسس قفاي الذي ما زال متورماً من “دكة” النذل أبو محمود.
ما علينا ….
صنة الظهر اللاهبة، وخلو المقبرة من الأحياء، كان الوقت المناسب لتهاشل طوائفهم إليَّ، وحينما وصلوا موضعي شرعوا تلقائياً ينقسمون إلى طائفتين، طائفة كانت تسلُّ من كاراتها محارم قماشية وتمسح وجوهها دون توقف، ولم أكن أرى فيها ما يستدعي لذلك، وطائفة تمسك أقفيتها بين يديها رامعة بين اللحظة والأخرى وكأنما أحداً من الخلف ينخشها بمناخيش ومخارز منبلة كرؤوس الإبر.
تناهبني الشك للحظات عن أيِّ من الطائفتين هي الناجية ..؟ لكن سرعان ما تبدد كل شيئ حينما لاح لي زول الرفيق “عطشان” من بينهم ببياضه المشرَّب بالحمرة متعصَّراً وقفاه كما الغربال من شدة النخش.
ما علينا ….
تقدَّم واحداً من أهل المحارم متسائلاً:
– جاار .. سايم عليك الله .. تفل .. ولا خوزقة!؟
رد عليه الرفيق عطشان رامعاً:
– أكيد خوزقة …
وأردف ساخراً:
– نسونجي وتفل؟ .. ما صارت!
فخرجت إليه عجوز من أهل المحارم تدبُّ على عكازها ليس بفمها سناً واحداً:
بلا نثونجي بلا بطيخ .. قرار وثدر .. تفل يعني تفل.
ومن يومها أرقد بموضعي هذا متهرجاً .. متفرجاً .. أتسلَّى بعورات المارين من فوقي منتظراً دوري لعبور الصراط إلى بلاد لا تسكنها إلاَّ الحور العين.