لم يعد الغرب بحاجة فعلية إلى استعمارنا ولا حتى إلى استغلال “ثرواتنا الطبيعية”، بالمعنى التقليدي للكلمة، بالأحرى، بات يخشى “استعمارنا” له عبر موجات اللجوء من جهة، والإرهاب العابر للحدود من جهة أخرى، الإرهاب الذي بات له اسم واحد في دوائر صناعة القرار، بالرغم من كل المحاولات الشكلية المخادعة لتجنّب التسمية أحيانًا، وذلك الاسم هو “الإرهاب الإسلامي”.
لقد تطوّرت أدوات تصنيع وإنتاج الثروة في الغرب إلى درجةٍ لم تعد فيها أهمية الموارد الأولية والطبيعية قابلة للتنافس على الإطلاق، مع موارد الذكاء البشري والصناعي. وقد أصبح الإنسان فعليًا هو مورد الثروة وليس الطبيعة، وبات إنتاج الثروة يتم فعليًا من الرأس وليس من الأرض، وانقلبت قاعدة الاقتصاد التي بنى عليها ماركس تحليله للرأسمالية والعمل والإنتاج على رأسها، حيث أصبحت البنية الفوقية هي ما ينتج ويعيد إنتاج البنية التحتية، والأفكار الذكية هي ما ينتج الاقتصاد القوي والجيش القوي والأمّة المحصّنة أمام أعدائها. بكلام آخر: لقد انتقل مفهوم الثروة كله في الغرب، من الثروة الطبيعية إلى ما يمكن تسميته بـ “الثروة الذكية”، وليس أمثال إيلون ماسك أو جيف بيزوس أو بيل غيتس أو مارك زوكربيرغ أو ستيف جوبز وغيرهم، إلا رأس الجليد الذي يمثل تجسيدًا لصناعة تلك الثروة الذكية.
وبالعودة إلى سردية “الإرهاب الإسلامي” الذي يحذّر منه ويستخدمه السياسيون، كورقة ضغط داخلية، نجد أن المسألة لم تعد تتعلق بالسياسيين وحدهم، بل إن أشهر المنظّرين والمفكرين، من أمثال جوردن بيترسون “على اليمين”، وسلافوي جيجيك أو سام هاريس “على اليسار”، باتوا يتحدثون بتناغم نادر عمّا يسمّونه الثقافة اليهودية -المسيحية “Judeo-Christian”، المؤسِسَتان للقيم الغربية والمتفقتان جوهريًا، واللتان يصعب على المسلمين التعايش معهما، بل إن هناك من يتحدث عن الـ”Black Democracy” أو الديمقراطية السوداء، التي ينتجها العالم العربي والإسلامي، والخاصة به وبثقافته.
أضف إلى ذلك، على المستوى الشعبي، تجدر ملاحظة النفور الشعبي الذي لا تخطئه عينٌ من العادات والثقافة الإسلامية المحافظة والانعزالية والبطريركية التي ظهرت مع موجات اللاجئين، والتي تراكبت فوق الحساسيات الموجودة أصلًا مع مسلمي المغرب العربي في فرنسا وبلجيكا مثلًا، والأتراك المسلمين في ألمانيا، ولا سيما بعد تجربة (داعش) التي استقطبت مسلمين غربيين عاشوا أجيالًا في الغرب، ولم يتمكنوا من الاندماج مع قيمه، ومن ثم عادوا في موجة مضادة أو تنسيق عبر الإنترنت، للقيام بعمليات إرهابية في عواصم ومدن غربية عدة، وهو ما رفع وتيرة الإسلاموفوبيا إلى مستويات غير مسبوقة.
النفور إذًا من التدخل في الخارج، ورغبة الانسحاب نحو الداخل، لم يعد سياسة فحسب، بل بات سياسة وفكرًا واجتماعًا، يمثّلها بايدن مثلما مثّلها ترامب قبله، لكن يبقى صانعها هو أوباما. فعندما أعلن أوباما خطط انسحابه من أفغانستان والعراق، وانسحب فعليًا من العراق عام 2011، مع اضطراره إلى إبقاء بعض القواعد والمستشارين، ثم أعلن سياسته بضرورة توقف أميركا عن كونها “شرطيّ العالم” والالتفات نحو الداخل، ثم التفرّغ لمواجهة الصين، كان يطبّق حرفيًا وصايا صموئيل هنتغنتون، في كتابه “صدام الحضارات”، على الرغم من أن أوباما شخصيًا لم يكن يحب هنتغتون ولا نظريته، على حد قوله، وأنكر تأثره بأفكاره السياسية الثقافوية.
لكن لننظر إلى ما يقوله هنتنغتون، في ما يتعلق بعلاقة الإسلام والغرب، لكي تتضح لنا طبيعة الخطوات الأميركية منذ أوباما، والتي تبدو كأنها تسير بمسار إجباري لتحقيق النبوءة الهنتغتونية. يقول هنتنغتون: “المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية، بل الإسلام: فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته وهاجسه ضآلة قوته. والمشكلة المهمة بالنسبة للإسلام ليست المخابرات المركزية الأميركية ولا وزارة الدفاع. المشكلة هي الغرب: حضارة مختلفة شعبها مقتنع بعالمية ثقافته، ويعتقد أن قوته المتفوقة إذا كانت متدهورة، فإنها تفرض عليه التزامًا بنشر هذه الثقافة في العالم. هذه هي المكونات الأساسية التي تغذي الصراع بين الإسلام والغرب”[1].
وفي خاتمة الكتاب، يخرج هنتنغتون بالنتائج والوصايا المهمة التالية: “في عالم الصدام الحضاري والاثني الناشئ، يعاني اعتقاد الغرب في عالمية ثقافته من ثلاث مشكلات: فهو اعتقاد زائف، ولا أخلاقي، وخطر. أما عن كونه زائفًا، فتلك هي الفرضية المركزية لهذا الكتاب… وأما عن كونه اعتقادًا بلا أخلاق، فذلك بسبب ما يجب عمله لكي يتحقق ذلك […] فالاستعمار هو النتيجة المنطقية الضرورية للعالمية. وإن أيّ محاولة لعمل ذلك ستكون ضد القيم الغربية الخاصة بتقرير المصير والديمقراطية […] إن عالمية الغرب خطر على العالم، لأنها قد تؤدي إلى حرب بين دول المركز في حضارات مختلفة، وهي خطر على الغرب، لأنها قد تؤدي إلى هزيمته”[2].
إن انسحاب أميركا من منطقتنا مرتبط أشد الارتباط بما قاله هنتغتون، بل يبدو وكأنه تطبيق للبرنامج الهنتغتوني، فهذه المنطقة لم تعد مهمة إستراتيجيًا للمصالح الأميركية، ولولا إسرائيل (التي أدركت تمامًا حجم التراجع الأميركي وبدأت إنجاز البدائل) لما بقي جندي واحد في كامل أنحاء المنطقة. فصعود الصين كحضارة وكقطب منافس ومهيمن بات حتميًا، والعودة الروسية لمواقع السيطرة والنفوذ باتت واقعية، وليس لأميركا سوى تقاسم النفوذ والتحلل من بعض الارتباطات، وإغراق الإمبراطوريات المنافِسة ببعض الأعباء الناتجة عن تحلل دولنا ومجتمعاتنا. وأما النتائج، فلا بأس إن تمثلت بالإبادة أحيانًا، أو بالفوضى، أو بالحروب الأهلية، أو بعودة الدكتاتوريات الفاسدة أشرس مما كانت عليه أيام التنافس الأميركي السوفيتي.
ليس الانسحاب الأميركي من أفغانستان؛ الذي قد يليه انسحاب من العراق وبعدها سورية، هو خلاص من الاحتلال، بل هو غرق في احتلالات جديدة أكثر شراسة ورعاعيّة، فالفراغ الذي لن تعبّئه الاحتلالات البعيدة لأعظم قوتين دكتاتوريتين في العالم، أي روسيا والصين، ستعبّئه الاحتلالات القريبة؛ المحلية والإقليمية، على طريقة احتلال “حزب الله” للبنان، أو احتلال الأسد لسورية، أو “الحشد الشعبي” للعراق، أو طالبان لأفغانستان، وأما الدول الإقليمية، مثل إيران وتركيا وإسرائيل، فلن يكون هناك أحب على قلوبهم من دعم تلك الاحتلالات والتلاعب بها وتجييرها لمصالحهم، والدرس الذي يمكن تعلمه من المأساة السورية الطويلة هو أن الاحتلال القريب أقسى وأشرس وأكثر إشكالية من الاحتلال البعيد، والأقربون ليسوا أولى بالمعروف، كما يقول المثل، بل أولى بالقتل.
ليس الانسحاب الأميركي، إذًا، بشرى سارة لشعوبنا، فليس هناك حركات تحرر وطنية في المسألة، بل هناك قوى ميليشياوية تابعة وعابرة للحدود، ولا يعنيها الوطن أكثر من بقائها في السلطة، وأكثر من سيطرتها المطلقة على جميع المختلفين معها، دينيًا أو اثنيًا أو طائفيًا أو سياسيًا. وفي الحالة السورية، لم يعد هناك مقاتل يخرج من السويداء، فيجيبه آخر من حلب، وآخر من جبال العلويين أو من دمشق، مثلما حصل في الثورة السورية الكبرى، بل إن تحرير الوطن، بالنسبة إلى أكثرية سورية الممزقة والمهجّرة، لم يعد يعني أكثر من تحرير دمشق وسورية من حاكمها.
لا يؤكد احتفال الإسلاميين والمسلمين، سنّة وشيعة، بعودة طالبان و”اندحار” الأميركان، إلا على ذلك الشرخ الحضاري الذي تحدث عنه هنتنغتون، ولا يؤكد الانسحاب الأميركي من أفغانستان ومن المنطقة كلها إلا على وصية هنتغتون بالالتفاف الأميركي والغربي كله نحو الداخل والتقوقع على الذات، والتوقف عن فكرة نشر ثقافته وقيمه والدفاع عن عالميتها، ومن ثم التفرّغ للمواجهة الحضارية مع الصين وروسيا وحروبهم ذات الطابع السيبراني والفضائي والتجاري وغيره. ولكن الجانب الأهم في تلك السياسة الانسحابية من الشرق الأوسط هو أنها باتت تتلاقى مع رغبة الشعوب الغربية، بأطيافها اليمينية واليسارية، فاليسار ضد التدخل العسكري والكولونيالية بشكل قاطع وساذج، واليمين ضد التدخل لأنه غير معني أصلًا بمصاير شعوب المنطقة تحت دكتاتورياتها، بل يرى أنها متناسبة تمامًا مع الثقافة الإسلامية لتلك الشعوب، ولا يعنيه سوى إيقاف موجات اللجوء وتحصين الغرب الأبيض من الثقافة الدخيلة، ولذلك أصبحت سياسات ترامب وبايدن، في ما يخص التدخل، ليست أكثر من استمرار لما بدأه أوباما؛ الصانع الأهم لتلك السياسة الالتفافية الثقافوية، والمعبّر الأكبر عن رغبة الأجيال الجديدة اللاتدخلية في الغرب.
إن الانسحاب الأميركي من أفغانستان هو انتصار فعلًا لطالبان، مثلما قد يكون انسحابها من سورية انتصارًا لروسيا والأسد، وانسحابها من العراق سيكون انتصارًا لـ “الحشد الشعبي” وإيران و”حزب الله” في لبنان، لكن من لم ير المصير المأساوي لشعوبنا، الناتج عن تلك الانتصارات، لن يرى كيف سيزيد الانسحاب الأميركي من مأساوية ذلك المصير. وأما الاحتفال الإسلاموي بنصر طالبان، فهو كمن يفقأ عينيه احتفالًا بمأساته ونكاية بخصومه.
(مركز حرمون)