ماهر مسعود: ضد اليسار أو نحو يسار جديد

0

قُل لي من هو عدوك، أقل لك من أنت! هذا هو المبدأ الأساسي للسياسة كما يراها كارل شميت، أحد كبار منظرّي الفلسفة السياسة في القرن العشرين، فمن غير الارتكاز على ثنائية “الصديق/العدو” لا معنى للسياسة ولا للعمل السياسي في اعتقاده، ولكي تحدد رأيك وموقعك واطارك السياسي، وتوجه مصالحك السياسية، لابد أن تحدد ضد من تعمل، ولماذا.

تغير العالم، انتهت الحرب الباردة، انهار الاتحاد السوفييتي، دخلنا في عصر القطب الواحد، ثم في اللاقطبية الدولية مع القرن الجديد، وربما ندخل في قطبية جديدة نتيجة التغيرات العالمية الهائلة التي يحدثها الوباء الجديد، لكن عدو اليسار ما زال ثابتاً وراسخاً ولا يتغير، فمنذ أن توقفت الماركسية عن فهم العالم واتجهت لتغييره؛ تبعاً لوصية نبيّ اليسار العالمي “كارل ماركس”، والعدو الأول لليسار في العالم هو “النظام الرأسمالي” الغربي، والامبريالية الأمريكية المعبرة عنه!

التحليل الماركسي للعالم أكثر تعقيداً من شرحه ببساطة هنا، لكن يمكن القول إنه يقوم على بعض المبادئ الجوهرية، ومنها أن السياسة هي نوع من المرآة للاقتصاد، فالنظام السياسي في أي بلد في العالم هو تعبير فوقي وشبه حرفي عن نظامها الاقتصادي، وسائل الإنتاج وقوى الإنتاج تفرز نمط علاقات الإنتاج، والبنية التحتية هي التي تنتج وتحكم البنية الفوقية وعلى رأسها السياسة، والتقسيم الطبقي القائم على توزيع الثروة هو ما يحدد طبيعة النظام السياسي الحاكم للمجتمع، وكل ما سبق محكوم بإطار فلسفي هو القراءة الهيغلية التي اعتمدها ماركس للتاريخ كتناقض وصراع ثم تجاوز ذلك التناقض بتركيب جديد، وبالتالي فالتناقض الذي أنهى سابقاً النظام العبودي ثم الإقطاعي، سينهي هو نفسه النظام الرأسمالي، ليفتح الباب للخلاص الشيوعي.

هذا الفهم الماركسي تجده في الجذر الأيديولوجي لأي حزب أو حركة يسارية في العالم، لكن إذا أخذنا تاريخ اليسار السوري تحديداً كمثال، سنجده قد عانى من خلل جيني أو تكويني ارتبط بمسألة البناء الوطني، حيث ارتكز ذلك الخلل على ثلاث نقاط إشكالية في الوعي اليساري، وهي: أولاً، انكار الطائفية، ثانياً، إقامة الخطاب السياسي على أساس الطبقات والوعي الطبقي على الرغم من عقم ذلك التحليل وانفصاله عن الواقع الاجتماعي، لا بل على الرغم من استخدام النظام السوري ذاته لذلك الخطاب الطبقي بهدف حجب المجال الاجتماعي، وثالثاً، التجاهل اليساري لحقيقة أن الحيز السياسي لا يُبنى إلا من خلال الحيز الاجتماعي، وتعامله مع مشكلة التعايش والاندماج الاجتماعي في سوريا على أنها مشكلة محلولة، وهو المبدأ ذاته الذي استخدمه النظام من جهته لتغطية ممارساته وطائفيته الأصيلة خلف خطابه الخلّبي حول الوطن والوطنية والشعب السوري الواحد.

ما يلفت الانتباه أيضاً في التاريخ اليساري في منطقتنا هو تلاقيه مع أقصى “اليمين” الديني في عداء النظام الرأسمالي الغربي وممثله الأمريكي تحديداً، وذلك تقريباً للأسباب ذاتها، فأيديولوجياً وأخلاقياً واقتصادياً تقوم الرأسمالية على التفاوت وانعدام المساواة، بينما يدّعي اليسار من جهة، والدين من جهة أخرى، دفاعهما عن المساواة كلٌّ على طريقته، أما سياسياً فيشترك الجانبان بسياسة الشيطنة لأمريكا ونظامها الرأسمالي وتحميلها جلّ مشاكلنا، فمن جهة “أمريكا هي الطاعون، والطاعون أمريكا” كما يقول محمود درويش، ومن جهة أخرى “أمريكا هي الشيطان الأكبر” كما قال الخميني وأخلافه، ولذلك لم يعد غريباً في هذا السياق ما رأيناه مثلاً من إدانة كل من حماس وحزب الله والحزب الشيوعي اللبناني أو الأردني لمقتل سليماني في الوقت ذاته.

بالطريقة نفسها، نجد أن جميع تنظيمات وحركات الإسلام السياسي؛ الشيعي والسنّي، تنضوي تحت هموم ومشاريع ما فوق وطنية خدمة لمشروعها “الوطني”، تتحالف مع الديكتاتوريات الإقليمية ضد أي مشروع وطني لا يضعها هي نفسها في السلطة، وذلك بحجة عداءها لأمريكا. يقوم اليسار بالشيء ذاته، لكن مجاناً، دون أنياب، ودون دعم اجتماعي، دون تنظيمات فاعلة، دون دعم حقيقي من أحد، بل التزاماً فقط بالعقيدة الايديولوجية الطفلية البائدة التي أنتجتها الماركسية الآنتي رأسمالية.

إن معاداة النظام الرأسمالي التي تشكل الحلقة الأهم في الأيديولوجيا اليسارية تبدو اليوم كنوع من السذاجة، ليس لأنها تقوم على ضياع وخلط بين الاقتصادي والسياسي فحسب (فالنظام السياسي الذي التصق بالرأسمالية وولد منها هو الليبرالية الديمقراطية، وإن أراد اليسار في أفضل حالاته ليبرالية وديمقراطية فهو يريدها دون رأسمالية، ولذلك تراه يدور في حلقة مفرغة من الرغبات المتناقضة، التي تدفعه مرة للبقاء خارج السياسة كما حدث مع اليسار العربي، ومرة لتركيب رأس شيوعي على جسد رأسمالي لإنتاج وصفات متغيرة المقادير من المسوخ الديكتاتورية)، ولا لأن النظام الرأسمالي اليوم هو نظام الكوكب كله فحسب، بل لأن الرأسمالية أخرجت من التاريخ من هو أكبر بكثير من مجرد حزب سياسي وأيديولوجية خلاصية، وعليه فإن كل عداء لها من خارج منظومتها وبغير آلياتها يضعك خارج الواقع والتاريخ، ومن هنا يصبح من الواضح أنه إن لم يغير اليسار من أولوياته ومن تعريفه لنفسه، وبالتالي تعريفه لعدوه بشكل جذري، وإن لم يجعل الديكتاتورية بغض النظر عن القناع الذي تلبسه، كعدو أول لشعوبنا منذ استقلالها، وعدو لشعوب العالم أجمع، فإنه من الطبيعي أن ينزلق لدعم تلك الديكتاتوريات أو حتى تمثيلها في سياسته وسلوكه وبرامجه السياسية بدافع العداء الجوهري للرأسمالية والنظام الرأسمالي.

إن تحول المعرفة لأهم سلطة معاصرة، قلب الرؤية الماركسية للعالم رأساً على عقب، فالبنية الفوقية اليوم هي ما يحدد وينتج ويصنع البنية التحتية وليس العكس، والأفكار هي من يصنع الواقع، والسياسة هي خالق الاقتصاد، ومجمل الموارد الأولية التي تحويها أغنى بلد نفطي في العالم على سبيل المثال، لا تعادل قيمتها قيمة فكرة واحدة مما يتم إنتاجه في الـ”Silicon Valley” في أمريكا، وقد تعادل الثروة التي يجنيها مارك روزينبيرغ من “فكرة” الفيسبوك ما تجنيه عدة بلدان مجتمعة تعيش على مواردها الأولية.

لقد تغير التاريخ كله، ولم يبق إلا أن يغير الله ما في نفوس اليساريين، إن لم يغيروا هم ما في أنفسهم.

*المصدر: بروكار برس

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here