مالك ونوس: “السيمفونية البطولية” لبيتهوفن وسؤال الطغيان

0

هل كان يكفي من المؤلف الموسيقي الألماني، لودفيغ فان بيتهوفن، أن يمزق الصفحة التي كتب عليها عبارة إهداء سيمفونيته الثالثة إلى القائد الفرنسي، نابليون بونابرت، بعد أن دخل عليه تلميذه ونقل إليه خبر إعلان نابليون نفسه إمبراطورًا، لكي تنتفي عن السيمفونية حقيقة أنها كُتبت لتمجيد من أصبح طاغية فيما بعد؟ فانطباع هذه السيمفونية في ذاكرتنا ووعينا استمر مرتبطًا بصورة هذا القائد ودافعًا للتأمل في مدلولات هذا الإهداء. انطباعٌ لم يتغير أو يتبدل منذ تقديمها أول مرة في فيينا سنة 1805، ومن الواضح أنه لن يتغير، إذ ما تزال صورة بونابرت تحضر كلما قررنا الاستماع إلى هذا العمل الذي أطلق عليه صاحبه فور انتهائه من كتابته، سنة 1804، تسمية “سيمفونية بعنوان بونابرت”.

“نصَّب نابليون نفسه إمبراطورًا على فرنسا”، إنها العبارة التي ضجَّت في رأس بيتهوفن وقلبت كيانه رأسًا على عقب. كيف له وهو البرومثيوسي المتمرد أن ينخدع في لحظة ما ويقف في صف من سيصبح طاغية يعادي الإنسان وقيَمه؟ صرخ بيتهوفن: “إذًا فهو ليس إلا مثل غيره من البشر العاديين!”. وأضاف: “الآن هو، أيضًا، سوف يطأ بقدميه جميع حقوق الإنسان، ولن يلتفت سوى لتحقيق طموحه، الآن سيتوصل إلى اعتقاد أنه أعظم من كل الرجال، وسوف يصبح طاغية”. عرف بيتهوفن من فوره، وبفضل حسِّه المنحاز للإنسان ولقيم العدالة والمساواة، أن هذا الرجل سوف يئِد حقوق الإنسان التي كرستها الثورة الفرنسية حين طرحت مبادئ “الحرية والعدالة والمساواة”، والتي تأثر بها مفكرون وكتاب وفنانون في أوروبا وألمانيا، ومنهم بيتهوفن المشبع أساسًا بقيم عصر التنوير، لدرجة أنه كان يهاجم الكنيسة والدولة وسلطات البلاط، وكان أول من نادى بحق الفنان بجهده وإنتاجه، بعد أن كان قبل ذلك يوضع بمرتبة الخدم والرقيق.

ما جرى مع بيتهوفن جرى مع كثيرين بعده، ويستمر كذلك في أيامنا الحاضرة، كما حصل قبل أشهر مع بعض النخب التونسية الذين دعموا قرارات الرئيس، قيس سعيد، ولم يتبينوا أنها تهيئ له ليصبح دكتاتورًا، وسيستمر مع من سيأتي بعدنا. وربما يعود السبب في هذا الأمر إلى أن ما نراه في الحاكم هو ما نرغب في أن يكون عليه، وليس حقيقته التي لا تظهر إلا بعد تمكّنه من الحكم. هذا الحاكم الذي يأتي على صهوة وعود مشبعة بقيم إنسانية عالية فنراه بطلًا نبيلًا، نفعل ما نستطيع لتمجيده علّه يستمر في تأدية دور البطل الذي نحب، غير أنه سرعان ما يخذلنا. ذلك كان حلم الموسيقي الألماني، لودفيغ فان بيتهوفن، وهو ما حصل معه فعلًا، عندما مجَّد الإمبراطور الفرنسي، نابليون بونابرت، بهذا العمل السيمفوني الذي يعد حجر زاوية في المدرسة الرومانسية واهداه إياه، قبل أن يتحول ذاك إلى طاغية فيتراجع بيتهوفن ويسحب هديته. حينها، وفور علمه بالخبر، امتشق بيتهوفن القلم وشطب العنوان السابق حتى مزق الورقة، ثم كتب الاسم الجديد باللغة الإيطالية (Sinfonia Eroica)، “السيمفونية البطولية”، فكانت هذه الحادثة عاملًا في تكريس صورة بيتهوفن التي استمرت حتى يومنا هذا، الرجل الذي يعشق الحرية والرافض طغيان الأنظمة الملكية واضطهادها الإنسان.

لم يكن بيتهوفن يعاني من عقدة الدونية أو يشعر بالنقص تجاه الحكام أو الأمراء والنبلاء أو الأقوى، لكي يهدي عمله الموسيقي إلى حاكم. كان لديه حس التمرد على الأقوياء في محيطه، كان يرفض أن يكون واحدًا من أولئك الموسيقيين الذين يعيشون في بلاط الأمراء، ويواظبون على تأليف القطع الموسيقية بناء على أوامرهم ليتمتعوا بجمالها وحدهم قبل أن تخرج من قصورهم إلى العامة بعد أحايين طويلة. وفي حين كان يجالس الملوك ويشاركهم في موائدهم، في الوقت الذي كان ينتقد فيه أجهزة الحكم جهارًا من دون محاباة أو خوف، كان بعض المؤلفين يعيشون في قصور الملوك أو العائلات الثرية أو النبلاء الذين كانوا يعاملونهم معاملة الخدم. وكانوا يطلبون منهم الوجبة المعتادة؛ قطعة موسيقية جديدة كل يوم، سيؤلفها الموسيقي ويوزعها على الآلات، ويدرب الموسيقيين على عزفها ليقدمها في التوقيت الذي يحدده الحاكم أو المالك.

لم يكن بيتهوفن من هؤلاء، كان قد عاصر بعضهم، وكان آخرون ممن سبقوه قد عاشوا على تلك الشاكلة، كان بكل بساطة يرفض التأليف بناء على الطلب. لذلك كان غريبًا على من عرف عنه عدم الخضوع للاستبداد والنزوع نحو الحرية ألا يتكون لديه يقين أن أي قائد سيستمر في الصعود إلى أن يصبح طاغية، ما لم يحتكم إلى الأجهزة التي تمثل الشعب. لكن تمزيقه الإهداء دليل على رفضه دور صانع الطاغية، إذ إن تدبيج العبارات لتمجيد أي قائد، سوف تسكره وتجعله يصدق ما يتشدق به المتملقون، ويعتقد أن فيه من القدرات ما لا تتوفر لغيره من البشر؛ إنه الأعلى والأقوى والأكثر ذكاء، إنه ربما نصف إله، بينما هو غافل عن هذه الحقيقة.

من غير المعروف إن كان بونابرت قد علم بمسألة تسمية السيمفونية باسمه، فهذه القضية يشوبها لغط لا يبدأ مما قيل إن القنصل الفرنسي في النمسا قد اقترح عليه تسميتها، ولا ينتهي بكلام تلميذه، فيرديناند ريز، الذي قال إن فكرة إطلاق تلك التسمية أتت بمحض إرادة المؤلف. وعلى الرغم من أن قليلين علموا بالعنوان الأول الذي كتبه بيتهوفن باللغة الإيطالية (Sinfonia intitolata Bonaparte)، يوم رأوه مكتوبًا على الصفحة الأولى، وكان قد دوَّنه بيتهوفن بعد أن فرغ من وضع اللمسات الأخيرة على العمل. لكن جزئية ظهرت فيما بعد، تؤكد أن بونابرت كانت تصله أخبار المفكرين والفلاسفة الألمان الذين كانوا يعتبرون أنه ابن الثورة الفرنسية وربما يحمل لهم الأمل بالتحرر. تتمثل هذه الجزئية بدعوة بونابرت، سنة 1808، عددًا من النخب للقائه في بلدة إيرفورت الألمانية التي احتلتها قواته، ومن بينهم المفكر الألماني يوهان غوته الذي كان قامة فكرية عالية في عصره، ما يدل على أن هذا القائد العسكري لا يفوته أي تفصيل، ولا شك في أنه كان يعلم بمكانته لدى بعض النخب، ولو أن هذا الموقف قد تبدَّل بعد احتلاله ألمانيا.

في ذلك العصر كان عدد من المفكرين والكتاب الألمان يرون في بونابرت رمزًا للتحرر من الطغيان، من بينهم غوته وهيغل. لذلك كانوا يأملون أن ينطبق نموذجه على بلادهم، أو حتى أن يجيء هو إلى ألمانيا لتحريرهم من طغيان ملوكهم وطبقة النبلاء المسيطرة على حياتهم. ولم يكن بيتهوفن سوى واحد من هؤلاء الذين رأوا بالرجل رمزًا للتحرر، غير أنه بدا متقدمًا على أقرانه، حين تحرّر من الأوهام مستشعرًا بالرجل نزوعًا نحو الطغيان والتفرد بالحكم، علاوة على نزعة الغزو التي جعلته يستبيح أوطان الآخرين، مهما كانت التضحيات أو الخسائر في صفوفه أو صفوف ضحاياه.

لم يتأخر نابليون في غزو ألمانيا، إذ احتل برلين سنة 1806، لكنه، وبدلًا من تحريرهم من طغيان حكامهم، أخضعهم لطغيانه، وهو أمر يثبت حجم هذا المعضلة أو الورطة التي عاشها هؤلاء أو غيرهم ممن يتوقون للتحرر حتى لو أتاهم من خارج الحدود. فتمجيد الطغاة يساهم في صناعتهم وتكريسهم، ولا ينجو من هذه الورطة أي من الحكام مهما كانت جوانحه محملة بإرادة التغيير. لذلك يبقى النص، الذي يحدد السلطات ويقونن النشاط الإنساني، وهو ما اندلعت الثورة الفرنسية وانقلبت على الملكية وأقامت الجمهورية من أجل فرضه، وهو ما كان على أولئك المفكرين تمجيده وتكريسه، لا تمجيد الرجل الذي أصبح طاغية فور توفر الامكانية لديه.

(ضفة ثالثة)