لعب “الكُتَّاب” في العالم العربي والإسلامي، دوراً تاريخياً مهماً في تعليم الأطفال واليافعين. وإضافة إلى تعليم القراءة والكتابة والقواعد وحفظ القرآن وتلاوته، فقد تم في الكتّاب تدريس الحساب وعملياته الأساسية، مع بعض المواد النظرية الأخرى. وكان معلم الكتاب شيخ يتحلّق الطلاب حوله جلوساً على الأرض. وحسب التطور الطبيعي لكل ظواهر الحياة، بدأ الكُتّاب بالاختفاء تدريجياً في القرن العشرين، عندما تطورت المدارس مع تطور العلوم الحديثة وتشعبها فحلّت محله، وتقريباً لم يعد موجوداً، أو هكذا كنا نظن. يتصادف أني أكتب هذه المادة عن تعليم الأطفال اليوم 20 نوفمبر/تشرين ثاني، وهو اليوم العالمي للطفل بحسب الأمم المتحدة.
مئتان وثمانٌ وعشرون مخيّماً في شمال غربي سوريا لا مدارس فيها اليوم، بما تعنيه كلمة مدرسة، إلا باستثناءات نادرة تكاد لا تُذكر. هناك “كتاتيب” صغيرة تُدرِّسُ القرآن والعلوم الشرعية، وسير الأنبياء والصحابة، وبعض القيم، خصوصاً تلك التي تحضّ على وجوب الثأر المقدّس المُلقى على عاتق أبناء الفرقة الناجيّة. نعم، تُلقَّن اليوم هذه المفاهيم لأطفالٍ لا يحتاجون بالأساس إلى تحفيز ليحقدوا على هذا العالم. عالم تركهم بدايةً لبطش نظام فاشيٍّ، وتالياً، تخلى عنهم وهم يعيشون مصيرهم المفجع، تحت وطأة الجوع والبرد والجهل والفوضى. إذاً عاد “الكُتَّاب” إلى الظهور في الشمال السوري مطلع القرن الواحد والعشرين، حيث لا يستطيع أطفال كتاتيب المخيم اللعب والغناء وتعلم الموسيقا والرّسم كما في المدرسة، فتلك أمور لا تليق بحملة راية الدعوة، في حين يتعرضون كلّ يوم للحقن الأيديولوجي الذي يعرف الجميع تبعاته. مع ذلك فإن الجميع يصمت.
هناك 900 ألف طفل في شمال غربي سوريا سيكبرون أمّيين تماماً، و500 ألف أكثر حظّاً منهم، سيحصلون على ترف تعلّمِ القراءة والكتابة ومبادئ الحساب، فمنحة الاتحاد الأوروبي “مناهل” تقدّمُ الدّعم لمدارس المرحلة الأولى فقط! لينتقل الأطفالُ بعدها إلى مدارس غير مدعومة، يُدرَّسُ فيها منهاج مبسّط سُمّي اصطلاحاً “التعليم التعويضيّ”، بعدد ساعات أقلّ، ومعارف إسعافية لن تساعدهم حين يصلون سنة الشهادة الإعدادية. في ظلّ هذا التّحصيل غير المجدي يتسرّبُ معظم أولئك الأطفال إلى سوق العمل، بقصد تعلّم مهنة ومساعدة أهلهم، في محاولةٍ لمغالبة ظروف المعيشة بالغة القسوة. كأن المجازر التي ارتكبها نظام الأسد بحقّ أطفال سوريا لم تكن كافية، فتستمر الجريمة اليوم بترك مئات آلاف الأطفال بلا تعليم يحصّنهم لمواجهة مستقبلهم في بلاد كلُّ القادم فيها غامضٌ ومخيف.
في تقاريرها، تفيد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأن “التعليم يحمي الأطفال والشباب اللاجئين من التجنيد القسري في الجماعات المسلحة وعمالة الأطفال والاستغلال الجنسي وزواج الأطفال، كما يعزز من صمود المجتمع”. إذاً يعلمُ الجميعُ أفراداً ومؤسسات، إقليمياً وعالمياً أنّ الجهل هو المناخ المثالي لنمو التطرّف والعنف، ومع ذلك يراقب هؤلاء جميعاً بصمت نشأةَ بقعة جغرافية ترتكز على “قاعدةٍ” وتركةٍ مثقلة بالمظلومية والخذلان. ليس طريفاً أن نتنبأ من اليوم أنه قد ينشأ بعد سنواتٍ قليلة تحالف دوليّ يشنُّ حرباً مقدسةً على أطفال اليوم المتروكين. يميلُ العقلُ الباردُ إلى تحاشي نظرية المؤامرة، لكنّ الواقع، من دون الوقوع في فخ المؤامرة، يرسمُ أمامنا مشهداً جليّاً لطاولة مستديرة يحكم المتحلّقون حولها على هذا الجيل بالموت تدريجياً.
تشير الأرقام إلى وجود ستة آلاف وخمسمئة مُعلم يعملون في شمال غربي سوريا تطوّعاً، في ظلّ ظروف معيشية قاسية. من المتفائل الذي سيعتقد أن هؤلاء سيحافظون على الثبات في تصدّيهم لحملة تجهيلٍ واضحة بحق أطفال وطنهم؟ وأيُّ مستوى من التعليم يُنتظرُ منهم حتى لو ثبتوا؟ في واحد من المخيمات يوجد سبعة مساجد لا يحتاج إليها عدد المصلين القليل، ويوزّعُ فيه كلّ شهر من السلل الإغاثية والصحية والمبالغ (الكاش) ما يفوق بعشرات الأضعاف الكتلة المالية لرواتب المعلمين في مدرسة المخيم (هي خيمة كبيرة نسبياً تُدعى “هنغار”)، ورغم ذلك ما زال المعلمون للحلقة الثانية والإعدادية متطوعين بلا أجر.
يؤكد المطلعون بأن قيمة السلل الغذائية والصحية، وكتلة المبالغ التي تُقدم لمناطق سيطرة هيئة تحرير الشام تبلغُ شهرياً أكثر من أربعة وعشرين مليون دولار. المشكلة إذاً ليست في قلة الدعم وإنما في الإصرار على زرع ثقافة الاتكال واقتصاد التسوّل، وإنتاج جيل، في أفضل حالاته، يقرأ ويكتب ويجيد مبادئ الحساب الأولية فقط. تعلل الجهات المانحة تقصيرها في الناحية التعليمية، بأن المنطقة تخضع لسيطرة تنظيم إرهابي، ولا يخطر ببال تلك الجهات السؤال البديهي: أيكون الحلّ بمعاقبة الناس مرتين؟ الأولى بالتعايش مع جهة متشددة، والثانية بترك أطفالهم بلا تعليم. ولو قبلنا بدايةً، على مضضٍ، وجاهة تلك الذريعة في التقصير دولياً، فهي ستسقط أمام معلومة أنّ المدارس الدينية تنتشرُ في كلّ البلدات والمدن والقرى وبعض المخيمات في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام.
عشرون مدرسةً تتوزّعُ في معظم المدن والبلدات، تتبعِ لمؤسسة “دار الوحي الشريف” التي بدأت عملها منذ ثلاث سنوات، وانحصر عملها في مجال التعليم. لم تقم هذه المؤسسة ببناء مدارس جديدة بل (صادرت) كلّ المباني من مديرية التربية، وقامت باختيار أفضلها من حيث السعة والموقع والأثاث. هذه المباني ملكية قانونية لمديرية التربية في حكومة الإنقاذ، لكن المديرية لا تملكُ أي سلطة عليها، حتى أنّ موجهاً تربوياً، أراد دخول إحدى مدارس الدار في مدينة سلقين، فتمَّ منعه. حاول الرجل أخذ إذن “الشيخ” ليقوم بمهامه، لكن جواب الأخير كان حاسماً: “لا سلطة لمديرية التربية علينا”. لا توجد إحصائية دقيقة حول عدد الأطفال في مدارس هذه المؤسسة، لكنّ الرقم، حسب العارفين، يقتربُ من خمسة آلاف طالب وطالبة، يتلقّون تعليماً دينيّاً مكثّفاً إلى جانب العلوم (الدنيوية)، من باب الاطّلاع ليس أكثر، بحسب المطلّين على المنهاج المعتمد. طبعاً هناك عدّة منظمات إسلامية أخرى تعمل حسب ذات النهج، لكنها ليست بقوة مؤسسة دار الوحي الشريف، من حيث الانتشار ومناصرة سلطة الأمر الواقع لها. ولا أحد، حتى العاملين فيها، يعلم عن تبعية مؤسسة دار الوحي الشريف، أو عن تمويلها ومؤسسيها. لا يُعرف سوى وجود رجل غامض يُدعى “الشيخ”، ولا أحد يعلم أن له اسماً آخر. كان السؤال عن المؤسسة يشبه التقصّي عن منظمة أو على الأقل فرع منظمة سريّة.
ليس في منهاج هذه الجهات جميعاً حصص موسيقا أو رسم، وليس بين نشاطاتهم الداعمة مسرح أطفال ولا فاصل غناء، فتلك الضلالات هي آخر ما يحتاج إليه الطفل المسلم في تنشئته، بل إنّ حصة الرياضة نفسها تسمى “إعداد بدنيّ”، ولا ينقص الأمر إلا نشرة سياسية صباحية، ليشعر التلاميذ أنهم في ثكنة عسكرية، خصوصاً أنهم يرتدون زيّاً موحّداً بألوان داكنة، توحي بزهد هؤلاء الأطفال بدنيانا الفانية.
*تلفزيون سوريا