كان تي إس إليوت واحداً من أهم شعراء القرن العشرين، ومن أبرز قامات الأدب الحديث الذي فتنت أشعاره، التي تسكن النفس، أجيالا من طلبة المرحلة الثانوية، ومحبي الشعر في أنحاء البلدان المتحدثة باللغة الإنجليزية. وقد كان «كتاب الجرذ العجوز عن القطط العملية» مصدر إلهام لعرض موسيقي. مع ذلك مثله مثل أي شخص آخر عاش تجربة حب واجهت مصاعب، ولم يكن منزهاً عن التصرف بعدائية وصلت إلى حد العلنية.
فبعد معرفته أن إميلي هيل، ملهمته المزعومة، قد منحت جامعة «برنستون» مئات رسائل الغرام التي كتبها لها خلال الفترة من 1930 حتى 1957، والتي أتاحتها الجامعة للعامة يوم الخميس، أعد إليوت بياناً جاء فيه: «لم أكن أحبها كثيراً حقاً على أي حال». وكتب في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 1960 في بيان أوصى بنشره «بمجرد» نشر رسائله إلى هيل علناً: «لم أكن أحب إميلي هيل. لقد لاحظت بالفعل أنها لم تكن من محبي الشعر، حيث كان من الواضح عدم اهتمامها بالشعر كثيراً. كنت أشعر بالقلق مما بدا لي دليلا على تبلد الحسّ والذوق السيئ».
كما كان مخططاً تم نشر بيانه يوم الخميس بالتزامن مع إعلان مكتبة جامعة «برنستون» إتاحة أكثر من ألف ومائة رسالة موجهة من الشاعر إلى إميلي للعامة. وكانت إميلي قد منحت الجامعة تلك الرسائل عام 1956 موصية بأن يتم فتحها بعد مرور خمسين عاما على وفاة كل منهما هي وإليوت، وقد توفيت عام 1969، وذلك بعد أربع سنوات من وفاة إليوت، ولطالما كانت العلاقة بين الاثنين مصدراً للتكهنات بين الباحثين في مجال الأدب الذين كانوا يعلمون بوجود تلك الرسائل منذ عقود. وقامت مجموعة صغيرة من الأساتذة في مكتبة «فايرستون» بجامعة «برنستون» بإخراج الرسائل في أكتوبر (تشرين الأول) من صناديق خشبية كانت ملفوفة داخلها بشرائط وأسلاك نحاسية.
وقد توقع الكثير من الباحثين أن تحتوي الرسائل على بعض الثرثرة الأدبية، وتأملات إليوت عن الكتابة والشعر. وكان إليوت، كما هو معروف، شخصاً متحفظاً، ولم يقدم نفسه كشخص يكشف عن مكنونات ذاته في رسائل غرام بحسب أنتوني كودا، أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة «غرينسبورو» بنورث كارولاينا، وباحث في أعمال إليوت، ومدير لبرنامج صيفي عن الشاعر. يقول كودا: «لم يكن ما تم الإعلان عنه محبطاً. لم أر الرسائل بنفسي بعد، لكن زملائي الباحثين، الذي اطلعوا على الرسائل، قد وصفوها بأنها فقرات محزنة تكشف عن إنسان في حالة عشق». وقد كتب إليوت في إحدى رسائله بحسب ما نشرته صحيفة «الغارديان»: «لقد جعلتني في منتهى السعادة؛ أسعد من أي وقت مضى في حياتي. لقد حاولت التظاهر بأن حبي لك قد انتهى رغم أني لن أتمكن من فعل ذلك إلا أني تظاهرت أن قلبي قد مات».
وتم إتاحة الرسائل، التي تضمنت صوراً فوتوغرافية، وبعض التذكارات، وسرداً موجزاً تصف هيل من خلاله علاقتها بإليوت، للعامة في مكتبة «فايرستون» فحسب، ولن يتم نشرها على الإنترنت حتى عام 2035 على الأقل حين تصبح غير خاضعة لحقوق الطبع.
ويتعجب الباحثون ومحبو إليوت من السبب الذي دفعه إلى بذل كل ذلك الجهد من أجل تقويض تلك المشاعر التي عبّر عنها.
يقول مايكل وود، أستاذ اللغة الإنجليزية الفخري في جامعة «برنستون»، الذي حضر عملية فتح الرسائل في أكتوبر الماضي، إن إليوت كان يحاول على ما يبدو الزعم بأن تلك العلاقة لم تكن سوى محض أوهام. ويوضح قائلا: «لقد كانت تلك مفاجأة كبيرة. لقد كان غاضباً.
لا أعلم ما الذي كان يحاول فعله بالضبط. ربما كان يحاول سرد قصة يعتقد أنها سوف تصحح القصة التي ترويها الرسائل. يبدو أنه أعاد كتابة علاقته بإميلي».
وقد التقت إميلي هيل، وهي امرأة ذكية ناجحة كان تدّرس الدراما في الكثير من الكليات، من بينها «سميث كوليدج»، بإليوت عام 1912 حين كان خريجاً في قسم الفلسفة بجامعة «هارفارد». وقد قال إليوت في رسالة إنه كانت هناك علاقة حب جمعته بهيل عام 1914، لكن على ما يبدو لم تكن تبادله المشاعر ذاتها في ذلك الوقت.
وقد انتقل بعد ذلك إلى إنجلترا، حيث التقى بفيفيان هاي وود، ابنة أحد الفنانين، وتزوجها سريعاً، وكانت علاقتهما بائسة على حد قول إليوت. وقام إليوت بتأليف بعض من أشهر قصائده أثناء زواجهما من بينها «بيرنت نورتون» التي يعتقد الكثير من الباحثين أنها مستلهمة من هيل بشكل ما. واستمرت المراسلات بين العاشقين أثناء زواج إليوت من وود، والذي انتهى بوفاتها في مصحة عقلية عام 1947، توقعت هيل أن يتقدم إليوت لخطبتها بعد تحرره من قيد زواجه، لكنها كتبت إلى صديق في وقت لاحق من ذلك العام: «لقد وصلت العاطفة المتبادلة، التي كانت بيني وبينه ذات يوم، إلى طريق مسدود على نحو غريب». وقال إليوت في بيان له إنه قد أدرك بعد وفاة زوجته إنه كان يحب «ذكرى» هيل فحسب، وإنه لو كان تزوج منها حين كان شاباً كان سيصبح مجرد أستاذ فلسفة متواضع على الأرجح. وكتب أيضاً: «كان ستقتل إميلي هيل الشاعر داخلي. لقد كانت فيفيان بمثابة موت لي تقريباً، لكنها أبقت الشاعر الذي يوجد بداخلي حياً».
كل ذلك محضّ هراء بحسب الأستاذ وود، حيث يقول: «نظريتي تفيد بأنه لم يكن يحتمل فكرة كونه سعيداً، وأنه كان يحب إميلي حقاً، لكنه كان خائفاً من تطور العلاقة». كذلك يرى الأستاذ كودا أن إليوت ربما كان يشعر بالذنب بسبب حبه لهيل أثناء زواجه من هاي وود. وقال: «أعتقد أن حزنه على وفاة فيفيان، وشعوره بالخزي والعار من إساءة معاملتها بحسب اعتقاده قد جعل من المستحيل بالنسبة له الاقتراب بحميمية من إنسانة في ذلك الوقت».
ويبدو أن البيان، الذي كتبه إليوت عام 1960 له غرضان على حد قول الأستاذ كودا. أولاً، أراد إليوت أن يثبت أنه لم يكن يوماً ضعيفاً كما تشير الرسائل، وثانياً، ربما كان يريد حماية ومراعاة مشاعر زوجته الثانية إيزمي فاليري فليتشر التي تزوجها عام 1957، وكتب إليوت في إحدى الرسائل: «لا أعتقد أن هناك امرأة يمكنني الشعور معها بالاندماج والاتحاد مثل فاليري». يبدو أن إليوت كان يخشى من تسرب الرسائل، وقراءة فاليري فليتشر لها على حد قول كودا: «يمكن تصور مدى خوفه من جرح مشاعر فاليري، وإثارة شكوكها فيه إذا ما اكتشفت شدة حبه لإميلي».
أما بالنسبة إلى هيل، فستظل المشاعر التي كشفت عنها لإليوت مجهولة للأبد، بسبب أن إليوت قد تخلص من رسائلها. يقول في نص مقتضب: «لقد قام زميل لي بتمزيق الخطابات المرسلة من إميلي هيل إلي بناء على طلبي».
المصدر: الشرق الأوسط