وهو يمشي في مدخل السوق حاملا كيساً مبهما من الخيش، الرجل الستيني العجوز ذو الثياب الرثة والوسخة، لمح بلاطة أسفل دولاب عربة تحمل الخضار متوقفة. سمّى وانحنى وأخذ البلاطة. وضع من كيسه المنتفخ الأسود، قطعة من خشب، مكانها.
رآه البائع الشاب فنهره، ما الذي تفعله بدولاب عربتي يا فاعل الخير؟!
كان ذلك لقبه الذي أُطلِق عليه على سبيل السخرية والشماتة.
رفع ظهره ونظر إليه. احتار كيف يخبره أن العربة إذا تدحرجت ستدفع البلاطة للشارع وقد تزحلق مارا يخطو فوقها.. لم يقل شيئا. هزّ رأسه ممسكا بالبلاطة التي انتزعها الشاب من يده وأعادها بعنف مكانها أسفل الدولاب، وركل قطعة الخشب برجله إلى الشارع، وهناك أصابت دولاب سيارة كانت تمر فتطايرت وعادت إليه لترطمه في ساقه.
شتم الشاب أحدا أو شيئا، وعاد إلى المناداة على خضاره الكثيرة التي لم يبع منها إلا القليل، بسعر أقل، متجاهلا الرجل العجوز.
خسر العجوز قطعة خشب ونيته الطيبة.
//
مضى إلى داخل السوق. كانت صناديق من السمك مصطفة إلى جانب بعضها، السردين وسمك القرش والحبار الحي الذي يسبح متقلصا داخل مياه مؤكسجنة. كان عليه أن يقطع الأكسجين عن صناديق الحبار، لأنه إذا ما أصدر حبرا فقد يؤذي المتناول والطابخ فيما بعد. سحب الأنبوب ذا الفقاعات بقوة، ففصله عن آله البث ووقع شيء كان فوقه على الأرض. غضبت امرأة كانت تتأمل سمك القرش المتمدد، وأشارت إلى بائع السمك أن يتدخل. هتف الأخير:
- ما لك اليوم مسطول؟
لوح بالأنبوب بيده وتمتم متلعثما أن الحبر ضار..
- سعر الحبار وهو حي أعلى منه ميتا!
- لكنه سام..
- اتكل على الله..
ودفعه.. وقع على المرأة التي جرحها ناب قرش كانت تتفحّصه بيدها. غضبت ودفعته.. وقع كيس الخيش على قدمها ذات الكعب وتعرقل به فتملص الكعب منها.
- أوف!
بصبر وحوقلة، لملم العجوز كيسه الذي يحتوي أكياساً أخرى في وجه المرأة وبائع السمك. كان يشعر بالحزن.
//
خطا خارج السوق حيث صف من العربات تنتظر المتسوقين لتنقل لهم أغراضهم.
كان ثمة صبي نائم، أول الصف، على جانب عربته يتمسك بها تكاد تندفع تحته. افرغ كيس الخيش من الأكياس وعاد ليغطيه بها كلّها. استيقظ الصبي الذي بدأ الشارب يخط شفته العليا وصاح راكلا كل الأكياس:
- الآن سيعطي المعلم الدور لولد آخر ويذهب عليّ انتظاري..
كان قصده أن يغطيه، لا أن يُذهِب دوره عنه إلى فتى آخر من الصف الطويل. لقد أشفق عليه من التعب، وهذه كل الحكاية.
//
عندها رأى رضيعا في حاضنته يصرخ من شيء ما، وإلى جانبه أكياس من مشتريات الخضار. حدس أن أمّه تركته في الشمس لتشتري شيئا. استعاذ واستشاء وحمل الرضيع وأخذ يهزه هزا رقيقاً ليسكته، فسمع صراخا أنثويا بعد برهات:
- الصبي.. خطّاف!
تجمع حوله المتسوقون والمارة والباعة وبالكاد تمكن من إقناعهم أنه كان يحاول إسكاته بانتظار أن تعود له أمّه. أخذته المربية بيد، وفي يدها الأخرى مرطبان من العسل كانت قد غابت لتشتريه، ودعت عليه!
لملم الأكياس. شعر العجوز بالضيق لأن كل مسعاه متطوعا -منذ الصباح- ينقلب ضده، فأقسم حانقاً ألا يساعد أحدا آخر.
//
على شمال مخرج السوق، رأى الباعة يلقون البطيخ إلى جانب الحاوية على كراتين من الورق المقوى فلا تنكسر، ففكر أن يستفيد أخيرا من شيء، من البطيخ، في إطعام بغله، قبل أن يأخذها قلاب شاحنة النفايات ويسحقها. بدأ يجمع الكرات الخضراء المخططة والسليمة ويملأ بها أكياسه، عندما سمع موظف البلدية ينتهره:
- هذا البطيخ لنا، ما الذي تفعله يا وجه النحس؟؟
ولكنه موضوع إلى جانب الحاوية، حيث تأتي الشاحنة كل يوم لتحمله وترميه بعيدا؟؟ تجمّد حول أكياسه الملأى حائرا ماذا يقول. هل كانت رشوة من نوع ما أو سرقة؟
تناول الموظف الأكياس الجاهزة ونقلها إلى غرفة الشاحنة حيث المقعد بجوار السائق، لا مؤخرتها حيث قلاب النفايات. عندها قرر العجوز ذو الثياب الرثة العودة إلى بغله المربوط قريبا، وأن يرجع معه إلى البيت.