لعبت النساء دوراً قيادياً1 كبيراً في سوريا منذ بداية الثورة عام 2011، ولكن مع تحول الثورة إلى نزاع مسلح تم تهميشهنّ من المساحات العامة، إلا أن هذا لم يُثنهنّ عن لعب أدوار سياسية واجتماعية في مساحات نضالية من نوع آخر. بدأت النساء التنظيم على مستويات أخرى استجابة للاحتياجات الماسة الناتجة عن النزاع والحصار والتهجير والعزل والإقصاء المُمَنهج.
لم يكن عمل النساء مقتصراً على الاستجابة لاحتياجات قصيرة الأمد، بل كان عملاً نضالياً تراكميّاً لتحقيق تغيير سياسي والوصول إلى سلام نسوي مستدام2، ومبنياً على احتياجات المجتمعات المحلية والقواعد الشعبية. وبناء على ذلك، كانت أجندات المجموعات النسوية ذات بعد تغييري أو تحويلي للواقع السياسي والاقتصادي والمجتمعي، ولم تكن مقتصرة على إحداث تغييرات أو إصلاحات سطحية أو مُسقطة. وقد تم إنشاء عدة منظمات ذات قيادات أو أجندات نسوية3 أو نسائية4 للمضيّ في العمل السياسي بمفهومه الأشمل نحو العدالة والحرية والسلام المستدام، ولتسليط الضوء على أثر النزاع على السوريين والسوريات داخل البلد وخارجه، وخاصة أثره الفادح على النساء والفئات المهمشة الأخرى.
يتبيّن بالنظر إلى المساحات النسوية التي كانت متاحة قبل عام 2011 أن التضييق الأمني على المجتمع المدني ككل كان سبباً إضافياً في تشجيع القيادات النسوية والنسائية على تأسيس وتنمية المساحات النسوية. وفي حين اختار بعض المنظمات سد الثغرات الجندرية الموجودة عبر الاستجابة بتأمين الخدمات أو بناء القدرات من خلال أنشطة التوعية، وتقديم دعم نفسي-اجتماعي، أو توفير فرص عمل وخدمات استشارية للنساء المتضررات من النزاع أو التهجير القسري، اختارت منظمات أخرى التركيز على بناء حراك نسوي والعمل على التغيير المجتمعي وبناء السلام والعدالة الانتقالية وتوثيق الانتهاكات وتفعيل جهود المناصرة لضمان وجود صوت النساء في المناقشات المحلية والدولية. ورغم الفروق في أجندات المنظمات النسوية والنسائية وأنماط عملها، تبقى التحديات الخارجية التي تواجهها متشابهة غالباً. ولعل القاسم المشترك بين كل المنظمات النسوية أو ذات القيادة النسائية هو الإصرار على تأمين حقوق النساء والعدالة الجندرية في المساحات الخاصة والعامة، سياسياً واقتصادياً وقانونياً ومجتمعياً.
لكن هذا الإصرار والصمود الذي أظهرته المنظمات النسوية والنسائية5 له مقومات أساسية لضمان استمراريته واستدامة جهود المنظمات عبره. وقد أشارت بعض المنظمات النسوية إلى أن المنظمة المُمكَّنة أو الصامدة بحسب رأيها هي «المنظمة المستقلة والقادرة على اتخاذ قراراتها بِحرّية، أي لديها موارد متنوعة ومرنة ومديدة للعمل حسب رؤيتها وليس حسب طلبات الممول. المنظمة المُمكَّنة لديها الحق بالعمل في المكان الذي تختاره، ولديها قدرات تقنية عالية وقيادة وجيهة تتحمل المسؤولية وتملك رؤية ومبادئ واضحة، ويتسم العمل فيها بالاحترام والمساواة ويعمل فريقها بفعالية، ولدى موظفاتها وموظفيها توازن صحي بين العمل والحياة الخاصة ويتحلون بالصحة النفسية. ويمتلك فريق عملها القدرة والمساحة والحرية للتشبيك والتنسيق مع الآخرين لتنفيذ عملهم/ن بشكل أفضل»6.
وفي تفكيك هذا التعريف، يمكننا تقسيم العناصر أو الشروط التي يجب توافرها في المنظمات الممكّنة والصامدة إلى أربعة شروط/عناصر أساسية: ١) السياق التنفيذي المواتي، ٢) الاستقلال من أجندات الممولين، ٣) الأمان، ٤) والسياق الاجتماعي الداعم. وبالنظر إلى هذه الشروط التي لا تتوفر مجتمعة في سياق عمل المنظمات النسوية السورية، يمكننا الاستنتاج أن أبرز التحديات المركّبة التي تواجه معظم أو جميع المنظمات النسوية أو ذات القيادة النسائية وتهدد وجودها واستدامتها تندرج ضمن هذه المحاور بالتحديد. وفيما يلي سردٌ لأبرز ملامح هذه التحديات المُركَّبَة التي تشكل عائقاً جوهرياً في ضمان استدامة جهود المنظمات وتهدد كيانها ومقومات صمودها.
مناخات عمل غير مستقرة
اتّسع النطاق الجغرافي لعمل المنظمات النسوية، إذ باتت تعمل في جميع أنحاء سوريا وفي الكثير من دول الجوار والعالم، وذلك بسبب عوامل عدة، كالتهجير والنزوح. وتبقى التحديات متشابهة إلى حد كبير رغم اختلاف السياقات حسب النطاق الجغرافي.
يشكّل التسجيل والترخيص تحدياً أساسياً تواجهه المنظمات مهما اختلف نطاق عملها الجغرافي. فالعقبات العديدة المفروضة على تسجيل وترخيص المنظمات السورية، من جانب النظام السوري أو حكومة الإنقاذ السورية في إدلب فضلاً عن الحكومات في البلدان المجاورة أو الأوروبية، تشكّل تهديداً لمكانة وشرعية المنظمات، وقد تصل إلى حد تهديد وجودها واستمرارها. فقد يؤدي عدم قدرة المنظمات على التسجيل أو الحصول على ترخيص عمل إلى تداعيات تؤثر على قدرتها على فتح حسابات بنكية، مما يحد بدوره من القدرة على الوصول إلى التمويل أو زيادة الفعالية في المجتمع والفضاء المدني. ويؤثر هذا بالتالي على استدامة وتمكين المنظمة وموظفيها/موظفاتها الذين/اللواتي يواجهون/يواجهنَ مشاكل في الحصول على تصريحات عمل أو إقامات في بلاد اللجوء، وبالتالي تزعزع استقرارهم/نّ وأمنهم/نّ الاقتصادي.
إضافة الى ذلك، تواجه المنظمات النسوية في جميع أنحاء سوريا – سواء في مناطق سيطرة النظام أو حكومة الإنقاذ أو في شمال شرق سوريا – تدخلاً كبيراً للقوى المسيطرة، التي تفرض تضييقاً أمنياً وتتدخل في نطاق عملها عبر فرض توظيف شخص ينتمي إلى هذه القوى المسيطرة أو فرض طلبات موافقة قبل تنفيذ المشاريع، والتي تُرفَض بشكل متكرر.
إذا ما نظرنا إلى هذه العقبات والتحديات، نجد أنها تُفرض بشكل غير متكافئ على عمل وأداء المنظمات النسوية والنسائية. ولعل ذلك ينبع من حس التهديد لدى هذه القوى المسيطرة، فقيودها ليست بالصرامة ذاتها على المنظمات الإغاثية مثلاً. وبالتالي قد يكون التضييق المفروض على المنظمات النسوية سببه الخوف من تمكّن واستطاعة هذه المنظمات النسوية والنسائية من خلق تغيير مجتمعي وثقافي، عبر تطبيق منهجيات عمل معادية للفكر القمعي لهذه القوى.
هذه التضييقات المفروضة على المنظمات، والتي تشكل بيئة عدائية وغير حاضنة للعمل النسوي، تتعارض بشكل كبير مع ما حددته المنظمات من شروط يجب توافرها لضمان صمودها واستدامة عملها لا سيما «الحق بالعمل في المكان الذي تختاره المنظمات أو الوصول للموارد المتنوعة والمرنة».
جمود الممولين
يؤدي جمود أو محدودية متطلبات وشروط الممولين، وانقطاعهم شبه الكامل عن السياقات المحلية، وغياب فهمهم للاحتياجات الميدانية، إلى جعلهم بشكل من الأشكال إقصائيين، أو حصر تمويلهم بمنظمات دون أخرى. ويفرض معظم الممولين أجنداتهم على المنظمات عبر وضع شروط لتتطابق طلبات المنح مع أجندة المانح، أو عبر ربط المنح بمشاريع تعاقدية يتطلب فيها تنفيذ مجموعة أنشطة، دون أن تكون بالضرورة مرتبطة بسياق تحويلي أو تراكمي أو مبني على الحاجات المحلية. هذا بالإضافة إلى غفلة الممولين عن تأمين التكاليف الأساسية أو التشغيلية للمنظمات.
ولهذه التحديات آثارٌ سلبيةٌ على أجندات المنظمات النسوية والنسائية على المستويين القريب والبعيد. فعلى المستوى القريب، قد تتأثر قدرة المنظمات وفرق عملها على تنفيذ المشاريع ما يزيد من معدل تواتر تبديل الموظفين والموظفات، وبالتالي عدم استقرار واستدامة عملها. أما على المستوى البعيد، فإن هذه التحديات التي تفرضها الجهات المانحة قد تخلق ضغوطاً كبيرة على قدرة المنظمات النسوية والنسائية على الحفاظ على أجنداتها النسوية التي تُعَدُّ فعلاً سياسيّاً. تحاول المنظمات النسوية والنسائية عدم الانزلاق، نتيجة هذه الضغوط، نحو فقدان خطابها النسوي المطلبي، أو الاقتصار على تلبية المتطلبات البيروقراطية للمانح عبر تنفيذ مشاريع مُسقَطَة.
ولهذا السبب، وبغية ضمان استدامتها وتأمين هامش من حرية العمل السياسي – النسوي، قامت المنظمات بتنويع مصادر المنح والممولين لتغطية التكاليف الأساسية والتشغيلية، والتي لا تُغَطّى من ميزانيات المنح المبنية على أساس الأنشطة. ولكن تنويع المنح ليس عملية سهلة أو مباشرة، وذلك بسبب بيروقراطية الممولين والمتطلبات العديدة المرتبطة بتقديم التقارير الدوريّة وما قد يرافقها من قلة المعرفة أو المهارات التقنية والمؤسساتية لدى المنظمات لتلبية كافة متطلبات الممولين. وبسبب سرعة نشوء ونمو المنظمات النسوية خلال السنوات التسع الماضية، لم تُتَح لمعظمهنّ الفرصة لتنويع التمويل أو التشبيك مع ممولين أو تخصيص وقت وموارد للعمل على تطوير الآليات للتصدي لمتطلبات هؤلاء الممولين. ونرى ذلك خاصة في منظمات المجتمع المدني النسوية الصغيرة وغير المسجلة، والتي تجد صعوبة في الحصول على تمويل عند بداية نشأتها. وبذلك يؤدي جمود وبيروقراطية الممولين إلى تهميش المنظمات الأصغر حجماً والأكثر هشاشة.
ولعل سرعة التغييرات التي يشهدها السياق العام في سوريا من شأنها أن تُحدث تغييراً مستمراً على سياسات وأولويات الجهات المانحة لتواكب الاحتياجات المستجدة، وهذا من شأنه أن يخلق سلسلة تحديات إضافية أمام المنظمات النسوية من حيث استمرار أو استدامة قنوات تمويلها الحالية. وتلعب القوات المسيطرة في بعض المناطق في سوريا دوراً في فرض سياسات بعض الجهات المانحة أو إيقاف عمل بعضها الآخر، مع الإشارة إلى وجود تحالفات تربط بعض الجهات الممولة مع القوى السياسية على الأرض، ما يزيد من تعقيد الأمور.
كل ذلك من شأنه أن يؤثر بشكل سلبي على منظمات المجتمع المدني النسوية في مناطق معينة، لا سيما تلك التي تخالف أجنداتها سياسات القوى والنظم الحاكمة، وتتصدى للهياكل القمعية التي تُهمِّشُ عملها. ومع محدودية الوصول للتمويل، يزداد تهميش هذه المنظمات النسوية، بحيث تصبح أطر مقاومتها المجتمعية أقل فعالية حين تخسر أشكال وموارد التمويل والدعم.
يشكّل جمود وبيروقراطية بعض الممولين وسرعة تغيير أولوياتهم تناقضاً كبيراً مع شروط صمود وتمكين العمل النسوي. «القدرة على اتخاذ القرارات بِحرّية، والوصول للموارد المتنوعة والمرنة حسب رؤيتها وليس حسب طلبات الممول» هي من أبرز شروط استدامة وصمود المنظمات النسوية، بحسب تعريفها. ولعلَّ التحديات الجمّة التي تحول دون توفّر هذه الشروط من شأنها أن تُعرِّضَ المنظمات النسوية لتهديدٍ يؤثر على آليات عملها، وعلى وجودها واستدامتها.
الأمن والأمان
تحديات الأمن والأمان التي تعيق توفير بيئة آمنة أو حاضنة للعمل النسوي هي ذات طبيعة هيكلية ومركبة، فهي تتخذ أشكالاً مختلفة، وتتم عبر مساحات عمل متنوعة، وتختلف باختلاف المنطقة الجغرافية التي تعمل فيها المنظمات النسوية والنسائية. وفي حين تتأثر جميع منظمات المجتمع المدني بهذه التحديات، إلا أن تلك التي تواجه المنظمات النسوية أو ذات القيادة النسائية تعد أكثر تعقيداً بسبب جملة تحديات إضافية ذات طابع جندري.
في ظل محدودية الحركة والتنقل، انتقلت معظم منظمات المجتمع المدني للعمل عبر الفضاء الإلكتروني حتى قبل انتشار جائحة كورونا بعدة سنوات. ورغم قدرة المنظمات النسوية على تطويع بعض أدوات العمل الإلكتروني، إلا أنها تواجه مخاطر من حيث الأمن الرقمي. ومع انتشار جائحة كورونا، وبسبب العمل المتزايد عبر الفضاء الإلكتروني، يمكن ملاحظة ارتفاع نسب العنف على الإنترنت الذي باتت المنظمات تتعرض له. تتراوح أشكال العنف على الفضاء الإلكتروني ضد النساء، وبالأخص الناشطات، من «نشر معلومات حساسة»7 إلى «الابتزاز»8 و«التصيّد»9، بالإضافة إلى تعميم تفاصيل حميمية دون موافقة، أو ما يسمى بـ«الإباحة الانتقامية». وتعتبر هذه الممارسات من أنواع العنف القائم على النوع الاجتماعي إلا أنها تمارس في الفضاء الإلكتروني. وبسبب قدرة هذا النوع من العنف على اختراق الحدود والجغرافيات دون الوقوف عند حواجز أو عوائق مادية، ونظراً الى سهولة إخفاء هويّة المُنتهِكين، يؤدي العنف على الفضاء الإلكتروني إلى تضخيم الضرر الناجم عنه.
يضاف إلى هذه التحديات المستجدة تحديات أمنية أخرى تواجهها المنظمات الموجودة في سوريا نتيجة انتشار السلاح والمجموعات المسلحة وبسبب الآليات الأمنية-الاستخباراتية. لقد أدت طبيعة النزاع إلى نزوح أو إغلاق عدد كبير من المنظمات لتفادي المخاطر الناجمة عن القصف الممنهج وعمليات العنف. ومع ذلك تم قصف العديد من مراكز المنظمات النسوية، وفي عدة أحيان أكثر من مركز تابع للمنظمة نفسها.1010. خسرت منظمة النساء الآن للتنمية مركزين بسبب القصف، في الغوطة عام 2018 وفي إدلب عام 2020.
في المقابل، تواجه المنظمات النسوية أو ذات القيادة النسائية في لبنان وتركيا انعدام الأمن بسبب تضييقات الحكومتين على السوريين/ات والمنظمات السورية، بالإضافة إلى فرض قيود إضافية على حركتهم/نّ في البلاد مثل القيود على السفر والتحرك عبر المحافظات. ففي لبنان على سبيل المثال، تعاني المنظمات وكوادرها (خاصة اللاجئين واللاجئات) من صعوبة الحركة بسبب السياسات والمواقف العنصرية من جانب الحكومة اللبنانية والسلطات المحلية.
وفي سياق متصل، تشدّد العديد من البلدان على إجراءات دخول السوريين/ات إليها، وتحد من منح تأشيرات الدخول لهم/نّ. ويؤثر ذلك حصرياً على الذين/اللواتي يستطيعون/ن السفر أو التقديم على تأشيرات الدخول. فيما يعاني المقيمون/ات في مناطق معينة في سوريا مثل إدلب من تحديات إضافية، فهم غير قادرين/ات على الخروج من المحافظة. وتؤدي الأوضاع غير المستقرة للّاجئين واللاجئات السوريين/ات في أوروبا إلى أعباء وتحديات إضافية. وتُعتبر تحديات السفر من أكثر التحديات التي تضعف قدرة المنظمات النسوية على التشبيك أو حضور الاجتماعات أو الفرص التدريبية ورحلات المناصرة. وترتبط هذه العوامل المتعلقة بالأمن والأمان بشكل مباشر بالتعريف المذكور أعلاه وتؤثر على قدرة «الموظفات/ين في الحفاظ على توازن صحي بين العمل والحياة الخاصة والتحلي بالصحة النفسية… وعلى القدرة والمساحة والحرية للتشبيك والتنسيق مع الآخرين لتنفيذ عملهم/ن بشكل أفضل»، وبالتالي تصبح قدرة المنظمات على الصمود والتمكن بحالة هشاشة مستمرة.
ويمكن أيضاً نسب العوائق المتعلقة بتقييد حركة الناشطات إلى السياق الاجتماعي الأبوي الذي يمارس القمع والتحكم بالنساء ويقيد حركتهنّ، ما يؤثر سلباً على قدرة الحشد لدى المنظمات النسوية وذات القيادة النسائية.
السياق الاجتماعي الأبوي
لا يحدّ النظام الأبوي القمعي من حركة النساء وحريتهنّ فحسب، بل يضاعف التحديات والعوائق أمامهنّ. ذلك أن تقييد الحركة نوع من أنواع العنف القائم على النوع الاجتماعي11 ضد النساء، وتعاني منه الناشطات بطرق مجحفة.
ويتم تقييد النساء في أدوار جندرية نمطية، ما يُضعف مشاركتهنّ في الحياة العامة والخاصة، وخاصة مشاركتهنّ السياسية الفعالة. وفي المقابل، يتم استغلال حقوق النساء أو بعض القضايا النسوية لتحقيق مصالح أو مكاسب سياسية من جانب فئات وأشخاص في خضم المناقشات الخاصة بالسياق السوري بغية كسب مصالح سياسية أو شخصية. ومن أبرز الأمثلة على هذا الاستغلال ضمن مساحات عمل المجتمع المدني السوري حين يتم دعوة سيدة للمشاركة في حلقة نقاش حول العنف الجنسي، ولكن بصفتها «ضحية>، ليتم حصرها في دور يقتصر على مشاركة مشاعرها وتجربتها، مقابل مشاركين من الرجال يشاركون تحليلهم وآراءهم حول الأمر. وتساهم هذه الممارسات في تكريس الفهم الخاطئ بأن النساء لا يستطعن المشاركة بشكل فعال ما يؤدي إلى تهميشهنّ وإقصائهنّ.
وتُعتبر ردة الفعل الذكورية الحادة، التي تستهدف النساء وتزيد من إقصائهنّ وتعرضهنّ للعنف والتهميش، وسيلة للحفاظ على الامتيازات الذكورية ودينامية القوة غير المتكافئة التي يمارسها الرجال على النساء في مواجهة التحول الإيجابي التدريجي في الأعراف والتقاليد نحو تعزيز حقوق النساء والعدالة الجندرية وموضعة هذه القوى وإعادة تكافئها. ويمكن ملاحظة ذلك منذ أوائل أيام الثورة حين قام الرجال بتهميش مطالب النساء بحجة أن «التوقيت ليس مناسباً، لأن المعركة مع النظام ما زالت قائمة>. ويُعدّ هذا القمع المُمارَس من جانب الرجال استنساخاً لقمع القوى المسيطرة على المواطنين والمواطنات، ويؤدي عدم قدرة الرجال على إدراك ذلك والتطرق إليه إلى ترسيخ النظام الأبوي القمعي.
لم تُثنِ هذه التحديات وغيرها المنظمات النسوية والنسائية، التي ما تزال تقاوم كل هذه التحديات الثقافية والأمنية والسياسية والتمويلية عبر استمرارها بالعمل لتعزيز حقوق النساء وتعميم الحساسية الجندرية والخطاب النسوي في عملها، وعبر الإصرار على عدم تجزئة الحقوق والمطالب والتأكيد على ضرورة مقاربة حقوق النساء باعتبارها غير منفصلة عن حقوق الإنسان.
مثابرة وصمود عبر استراتيجيات نسوية لقلب موازين القوى
لجأت المنظمات النسوية وذات القيادة النسائية إلى العديد من الاستراتيجيات النسوية للتصدي لهذه التحديات، لأنها تدرك أهمية عملها كأداة لا غنى عنها للتغيير السياسي والاجتماعي. ولعل أهم ما لجأت إليه المنظمات النسوية هو خلق أو تعزيز العلاقات مع المجتمعات التي تعمل ضمنها، بغية تثبيت نظام دعم اجتماعي أو بيئة حاضنة، واستبدال الشرعية الرسمية بشرعية اجتماعية وشعبية، وكسب ثقة المجتمع المحلي. وتدعم هذه الاستراتيجيات عمل المنظمات النسوية ضمن حدود من الحرية المستمدة من الثقة المبنية مع المجتمعات المحلية؛ فيما تساعد هذه العلاقات مع المجتمع المحلي على مقاومة المنظومة السياسية الأبوية والأمنية في العديد من المناطق التي ينطوي فيها العمل الميداني على الكثير من التحديات الأمنية والسياسية. إضافة إلى ذلك، تعمل الكثير من المنظمات النسوية بهويات مجهولة و«من تحت لتحت>، ولا تكشف عن استراتيجياتها أو أنشطتها، أو تحد من مشاركتها على المنصات العامة بهدف الالتفاف على القوات المسيطرة وضمان استمرارية عملها.
وأخيراً، تلجأ الكثير من المنظمات النسوية وذات القيادة النسائية إلى التمويل الذاتي، وتعتمد على الموارد الخاصة بالمنظمة والتطوع في مواجهة نقص التمويل وجمود الممولين. وقد لجأت منظمات عديدة إلى تخفيض التكاليف عبر العمل من المنزل أو حشد التمويل عبر التبرعات وأنشطة توليد الدخل، وقد عادت علاقة الثقة القائمة مع المجتمعات المحلية على هذه المنظمات بفائدة كبيرة في هذا الصدد.
ما يمكننا فعله كسوريين وسوريات لدعم المنظمات النسوية في مواجهة التحديات هو منحها الثقة والشرعية والدعم المجتمعي، وعدم استغلال مشاركتها وعملها وأجنداتها لتحقيق مكاسب سياسية أو شخصية، إضافة إلى الإيمان بقدرتها على قلب موازين القوى وتحدي الأنظمة القمعية الأبوية.
خلاصة
تم تصنيف جملة التحديات التي تواجه المنظمات النسوية أو النسائية في أربعة عناوين رئيسية لتبيان كل واحد من هذه التحديات على حدة، وإيضاح التحديات الإضافية ذات البعد الجندري على أجندات المنظمات النسوية. لكن واقع الأمر هو أن هذه التحديات متداخلة ومتشابكة لدرجة أنها تخلق مجتمعة أخطاراً على العمل النسوي واستدامته. واللافت في تشابك هذه التحديات هو سعي القوى المسيطرة إلى استغلال تحديات هيكلية (كالثقافة الذكورية/الأبوية، أو قلة موارد التمويل) لقمع المنظمات وتقييد عملها.
وعليه، بالنظر إلى الطبيعة المركبة للتحديات التي تواجهها المنظمات النسائية والنسوية يمكن استنتاج وجود علاقة مطّردة بين عمق التحديات والخوف من التغيير الذي تحمله الأجندات النسوية. فكلما ازداد خوف القوى المسيطرة من هذه الأجندات النسوية والقوة التغييرية التي تحملها، والتي من شأنها زعزعة أشكال القمع المتداخلة وتهديد مكانة وخطاب النظام الأبوي، يزداد سعي هذه القوى لإحكام قبضتها على مساحات العمل النسوي في سوريا.
لقد استطاعت المنظمات النسوية وذات القيادة النسائية المثابرة والصمود رغم هذه التحديات العديدة التي تفرضها الأنظمة القمعية، ومنها النظام الأبوي، بسبب عزمها ومثابرتها. وقد زودها اتباع نهج مجتمعي تشاركي حساس جندرياً ومتصل بالسياق وقائم على الحقوق بالأدوات اللازمة لمواجهة الأنظمة القمعية التي تفاقمت مؤخراً مع انتشار فيروس كورونا وتبعاته، كزيادة العنف المنزلي في الحجر.
طورت المنظمات النسوية وذات القيادة النسائية استراتيجياتها وأساليبها لتغيير موازين القوى بشكل عضوي، واستطاعت بذلك التركيز على تحقيق آثار طويلة الأمد سعياً إلى إحداث تغيير سياسي واقتصادي وقانوني ومجتمعي للوصول إلى العدالة والسلام النسوييَن المستدامَين.
*موقع الجمهورية