سميحة خريس، روائية من الأردن
أوراق 19- 20
الملف
طوت السيارة الأرض فينا كما تطوي جدتي لحاف الذكريات، سفر يمتد من عمان إلى الرّقة، يحط الرحال قليلاً في دمشق ثم يواصل رحلة طويلة لا يعتريها الملل ورفيقتي الناقدة والروائية رفقة دودين تدندن بأغان عتيقة وتحكي ملحاً ونكاتاً تسري عن النفس، سوريا تفتح صدرها للقائنا، مسترخية ودودة كامرأة شامية، وأنا على قدر معلوماتي أعرف أن الرقة تقع في محيط صحرواي جاف المناخ، ولكني أعلم أنها تستلقي على شط الفرات الشرقي وادعة بسيطة.
كان العام 2009 والدنيا في إقبالها واعدة بهية، والرقة في حلتها الثقافية تحتضن المؤتمر الخامس للكاتب عبد السلام العجيلي، أحد أبرز أبنائها المبدعين، تستعيد سيرته وتقلب صفحات ابداعه بين جمع من الأشقاء العرب يطرحون هموم الابداع وعلاقته الشائكة مع النقد.
بعيداً عن المراكز الثقافية القادرة على ابتلاع الأخضر واليابس، القاهرة ودمشق وبيروت، كانت الرقة قادرة على احتواء عشرات الكتاب العرب تحت محور الرواية والنقد، غزالة سوريا الجميلة الروائية شهلا العجيلي كانت تتصرف كبنت الدار، تتنقل بين الضيوف، تشرف على احتياجاتهم وتضفي جمالاً باهراً على أيام مختلفة حميمة عشناها هناك.
حضرت الوجوه السورية التي أثرت المكتبات العربية بعطائها الجزيل، كان هناك خيري الذهبي ونبيل سليمان، ممدوح عزام وابتسام تريسي وإذا لم تخني الذاكرة وقد شوهتها فيديوهات الحرب التي طالت الأرض المقدسة الرقة، فقد رافقنا في عام الوئام والسلام ذاك جمع من المثقفين العرب، محمد الباردي من تونس ومحمد الاصفر من ليبيا والميلودي شغموم من المغرب ومن لبنان علوية صبح، من اليمن عمر عبد العزيز، من الكويت فايز الداية، من المغرب شعيب حليفي ومن مصر حسين حمودة وأخرين، لقد صنع هذا الجمع من المبدعين والمفكرين أجواءً ساحرة في فضاء الرقة الذي يرفل بالمحبة، وتواصل المهرجان شعلة تؤكّد أن اضافات الاطراف البعيدة ليست أقل من فعل المراكز الحيوية في عالمنا العربي..
لم يكن من حولنا فقط جمع من نخبة المثقفين ولكننا حظينا بمعرفة الناس في الرقة، تلك الوجوه السمحة التي لوحتها الشمس واختلطت لهجتها بالشامي والحلبي والعراقي، بداوة على أطراف المدينة لهجة، وأصالة في عمق الحضارة ترحاباً وكرماً وخلقاً.
ثم والأهم من كل هذا الحوار الذي يثري المعرفة هي تلك المعرفة بالإنسان والجغرافيا.
ربما تخوننا الدموع إذا غنى أبناء الرقة مواويلهم الحزينة قبل أن يعرفوا الحزن الراهن، كانوا يغترفون من التاريخ الذي ترك شواهده في أرجائها عن العصر العباسي الذي ازدهرت فيه المدينة، وعندما تم اصطحابنا كما لو كنا جمع من السياح إلى سد الفرات رحنا نغني بكل اللهجات العربية في باص ينقلنا إلى أن وصلنا، أمام الفرات المهيب وقفت على تلك العظمة الممتدة مثل محيط غزير من ماء عذب، أغمضت عيني رهبة وهمست لنفسي: نحن في مكان بعيد لكننا، نشرب من هذا العذب الزلال.
بعد ذلك كل ما تبثه الفضائيات التعيسة من أخبار الدمار يوجع في العمق لكنه لا يمحو أبداً ما تركته الرقة في أنفسنا من سماحة ومعرفة ومحبة…