هوازن خداج
كاتبة سورية
مجلة أوراق العدد 12
الملف
أحاول التفكير بمقدمة ما، أكون فيها شاهدة على عشر سنوات مضت أو مضينا فيها، لا أستطيع أن أجد تلك المقدمة؛ فمن الغرابة أن أكتب “عنها”، وأنا عادة أكتب “منها” من هول مآسيها ومن ذلك الدمار الذي ثقب أرواحنا فاتحاً فجوة كبيرة لسؤال “ماذا بعد؟”، سؤال لا يسكن ولا يكفّ عن اختراق الوقت، فمع كل لحظة هناك ضحية تسكنني غصباً عني تصرخ لم كل هذا؟ وفي كل لحظة أحاول الفرار منها لالتقاط أنفاسي والبحث منطقياً في تفاصيل حدث ما سأكتب عنه، لكني أفشل بإيجاد ذلك المنطق أو الكتابة بتجرد “حوله” فأنا أسقط مع كل حدث لأكون ضحية تكتب بأنفاسها كيف يمكن أن تنجو من كل هذا القهر.
سأترك المقدمة جانباً- في الحروب لا يهتم الضحايا غالباً بالمقدمات- لأكتب حول تجربة الكتابة التي خضت فيها خلال العشر سنوات، سأحاول التركيز في الإجابة وأهرب كما هي العادة من ملايين الأسئلة المُعلّقة، لأجيب “لم تتغير الأمور كثيراً” بالنسبة لي، هذا الجواب المشحون بكم من الأحلام والخيبات التي شكلت محور حياة لغالبيتنا في السنوات الماضية، واخترقت التفاصيل القليلة التي تمكنت من كتابتها عما حدث ويحدث.
قبل عشر سنوات
مثل الكثيرين غيري، لم أبدأ الكتابة في الصحافة مع الثورة، بل قبلها بسنوات طويلة، سنوات لم أخرج منها ولم تخرج مني، سنوات وأنا أضع يدي على فمي، كي لا تخرج “الكلمة” كما هي بلغتها الصافية الصريحة. وأقلب شريط اللغة على مهل أبتعد عن مسامير الكلمات الحادة، لأجد كلمة رخوة ليّنة لا تُحتسب إهانة لهيبة الوطن، ولنفسية الأمة، أكتبها وأنا أسأل إلى متى سيستمر هذا الكابوس ساكناً رؤوسنا؟. وغالباً، أؤجل الإجابة أو أهرب منها لأكتب عن “بلد آخر” لا بأس أن انتهكت هيبته قليلاً، وأزعجت بعضاً من نفسية أمته.
ولن أخفيكم أن ضوابطي النفسية كانت تسقط أحياناً، فقلمي كان يغدر بي، كما حدث في ذلك اليوم الذي كتبت فيه مقال “تنفسوا قبل أن يصبح الهواء مكرمة” هل تذكرون ” مكرمة المازوت” في العام 2008، أنهيت المقال بين السخرية والجدّ، لم أفكر أو أتردد حين وضعته على صفحات “الحوار المتمدن” هذا الموقع المحجوب في سوريا. فالكتابة عمل شاق ومغامرة في قول الحقيقة أمام عصا الجلاد، هذه الحقيقة التي أكملت سردها كمذنبة وجاحدة لنعمة الوطن، والضابط يحدثني عن الوطن وضرورة حب الوطن، وعن المكرمات وسيد الوطن.
لن أستطيع ببساطة أن أجمع كل الكلمات التي ارتمت في وجهي أو أصف لكم ذلك الوطن “الأمان، التعايش، التعليم المجاني، الطبابة المجانية….”، لكن أستطيع أن أخبركم بشعوري، كانت أنفاسي تضيق وأنا أُمسك صرخة “أريد هذا الوطن” فوطني لا يشبهه، إنه الصورة المعكوسة لكل ما تقوله، ولكني استبدلت الصرخة بكلمات رخوة زحفت من بين شفاهي لم أفهم القصة هكذا “عن المكرمات”، وصَمُتُّ حوالي ساعة أو أكثر أتابع فيها بقية حديثه “تهديد ووعيد عن سجن وقتل و…” وأنا أنتظر تنفيذ “عقوبة الوطن”، لكنها تأخرت ثلاث سنوات، ليس بالنسبة لي فقط بل لنا جميعاً.
خلال عشر سنوات
قد يُحب البعض أن يكتب عن بداية العشر سنوات، وقد يُحب البعض الآخر الكتابة عما حققته الصحافة الحرّة من فرص للصحفيين، وعن أقلام المبدعين وعن.. لكن سأتجاوز كل ذلك، فأنا لا أكتب مقالاً للتحليل أو للنقد، لأتابع ” لم تتغير الأمور كثيراً بالنسبة لي” الكتابة عمل شاق في الحروب، فكل لحظة هناك حدث ما يدفعك لتكتب أو تصرخ، وكلما بدأت ترتجف الكلمات لتدخل في صلب الاستيقاظ من “حلم ما” عن الوطن، إلى “واقع ما” للوطن، وفي كليهما بقي الوطن ضيقاً خانقاً.
والأكثر من هذا أني صرت أفشل في الكتابة عن بلد آخر، كي أخفف حدة الألم وأنسحب من استعصاء القهر، أو أتجنب “فنجان القهوة” الذي يعرفه السوريون جيداً، لم أعد أستطيع ممارسة “التقية” والهرب من الكابوس. تحول كل شيء لزفرة طويلة أطلقها مع قراءة الصحف والتحليلات وسيل الكلام، فالأحداث تترصد بي في كل زاوية، ولم تعد الكتابة سوى زفرة طويلة، زفرة بلا نهاية أحاول أن أخفيها على الهامش غير المقروء من النص، وأتابع كتابة القهر، كنت أكتب “منه” لا “عنه”، من عمق الوجع الذي يعيشه الناس، أحياناً أُفلح في تقديم الصورة كحقيقة، وأحياناً أخفي هول الحقيقة بقليل من الأمل، وأستمر بالكتابة وأنا أُلصق فوق الجراح والندب بعض من الكلام الصحفي، أو ما نسميه “حكي جرايد” حول التغيير القريب وحول استحالة أن تستمر الأمور كما هي.
ولكن في ذلك اليوم الذي سألتني فيه “إحداهن” هل فعلاً تعتقدين أن هذا سيتغير وأنه سيكون هناك وطن لكل السوريين، وطن ننعتق فيه من “الرسن”، ونعيش بحرية بلا عصا الطاعة الطويلة؟ لم أستطع في حينها إلا أن أقول الحقيقة، أني لا أعتقد ذلك بحدود الواقع الحالي.
لم تكن مجرد عشر سنوات
منذ بدأت الكتابة كان يحضرني سؤال: لماذا أكتب؟ ولم أستطع يوماً الإجابة بدقة على هذا السؤال، فأنا رغم ما كتبته من مقالات وأبحاث، لم أمتهن الصحافة بعد، فمهنة الصحافة تحتاج لحرية الفكر والطرح، وهذه لا أعتقد بأنها تحققت بالكامل خلال السنين العشر لأسباب مختلفة يعرفها كل العاملين بالصحافة. ومن بين كل الأسباب هناك سبب وحيد يقنعني بضرورة الكتابة، هو أني غارقة بالحدث وبارعة نوعاً ما بـ”النميمة” كونها أصل السلطة الرابعة، والفعل الحقيقي الذي يمارسه الصحفيون، كما يصفها “كتاب العاقل”، الصحافة هي “نميمة” عن المشكلات لتغييرها، وما أكثرها وأكبرها وأنا عالقة فيها، وغارقة بالبحث عن إمكانية النجاة.
ما حدث ويحدث لم يكن مجرد عشر سنين، إنه موت وضحايا ومختفين وتجويع وقهر من جهة، ومن الجهة الثانية إنه رغبات وأحلام وحقوق وإرادات، كلها تدفعني لأكتب، وكما كنت سابقاً أكتب على “أمل” أن يتغير كل شيء، ما زلت أكتب وأنا أحمل نفس الأمل وإن كنت أدرك أن أملي كان وما يزال مطعون بآلاف السكاكين، سأستمر علّه يصير حقيقة علّه يصير حياة.