لماذا نقبل السجن؟

0

راتب شعبو

كاتب وروائي سوري

أوراق 11

ملف أدب السجون

سوف أنقل فيما يلي قصة شخصية، ولكنها عامة أيضاً، وتضيء على موضوع التصور السائد لدى المعتقلين السياسيين في سورية (وفي العالم كما يبدو) فيما يخص الموقف من السجن. لنفكر بصوت مسموع: ألا يمكن رفض السجن التعسفي، أم أنه ليس أمام السجين سوى القبول بالسجن؟ والقبول الذي نقصده هنا، لا علاقة له بالقبول والرفض النفسي، بل بالأحرى القبول والرفض السياسي أو النضالي ربما.

تحت ضغط تفكك المنظومة الاشتراكية التي كانت سنداً قوياً لنظام حافظ الأسد، حاول هذا الأخير احتواء الموجة الديموقراطية التي راحت تطيح بأنظمة شبيهة، بما فيها نظام نيقولا شاوشيسكو في رومانيا الذي كان عزيزاً على قلب “نظامنا”، فاتخذ عدة قرارات توحي بالاستجابة للموجة، كان منها قرار الإفراج عن آلاف المعتقلين السياسيين في أواخر العام 1991. كانت غالبية السجناء المفرج عنهم من ذوي التهم الإسلامية (في سجن عدرا شمل الإفراج جميع هؤلاء) مع عشرات من المعتقلين اليساريين.

كانت شعبة الأمن السياسي قد اعتقلت في صيف 1983، مجموعة من طلاب جامعة دمشق، حوالي 12 طالباً من كليات مختلفة، معظمهم في عمر العشرين سنة، يربطهم ميل يساري وانشغال ثقافي فكري فيقرؤون كتباً ويناقشونها معاً، وكنت أحدهم. ما حدث أن أحد أفراد هذه المجموعة اعتقل أثناء نقله أدبيات تخص حزب العمل الشيوعي من دمشق إلى حمص، وهكذا القي القبض على كامل المحيط الصداقي لهذا الشاب، واعتبرت المجموعة تابعة للحزب. في وقت لاحق قيل إن رئيس فرع الأمن السياسي في دمشق حينها، العقيد أمين العلي، برر احتجاز هذه المجموعة بأن رصيد فرعه من معتقلي حزب العمل الشيوعي كان عنصرين فقط، فوجدها فرصة لرفع رصيده، ولاسيما أن أرصدة الفروع الأخرى من هذا الصنف أكثر بكثير مما لديه، وهذا يقلل من قيمته أمام القيادة. بعض أفراد هذه المجموعة لم يجد المحقق ضرورة للتحقيق الجدي معهم، لأنه لا يوجد لديهم صلات أو يسألهم عنها.

شمل الإفراج المذكور (إفراج البيريسترويكا) جميع أعضاء المجموعة، بمن فيهم الشاب الذي اعتقل أثناء نقله البريد، واستثناني، لتتم إحالتي لاحقاً، مع جميع من لم يشملهم الإفراج، إلى محكمة أمن الدولة العليا في دمشق، لاكتشف عند قاضي التحقيق أن استبعادي يعود لسببين، الأول تقييم سلوكي أثناء سنوات السجن، وهو أنني أقضي وقتي بالقراءة ولست ودوداً مع عناصر الشرطة، والثاني هو تقييمي من جانب رئيس الفرع الذي زج في ملفي ورقة صغيرة بحجم الكف تتضمن تقييمه بعد انتهاء التحقيق، كما قال لي القاضي الذي تكرم علي بأن قرأ الورقة/الحكم التي تقول ما يمكن أن يكون مديحاً لو لم يأت على لسان ضابط مخابرات: “إنه ذكي وله تأثير على رفاقه”. لا أدري كيف يمكن تقييم ذكاء شخص تحت التعذيب الذي يشل الذكاء إن وجد. ولا كيف يمكن تقييم تأثير الشخص على رفاقه بينما هم في زنازين معزولة.

ولكن أهم ما تضمنته الورقة، هو “الحكم” الصادر بحقي والقاضي بأنني مسؤول التنظيم الطلابي لحزب العمل الشيوعي في جامعة دمشق، وأنه كان يمكنني دراسة الطب في جامعة تشرين في اللاذقية (مدينتي) ولكني جئت للدراسة في جامعة دمشق بشكل خاص كي أقوم بهذا الدور. في حين لم يتطرق التحقيق معي إلى هذا الأمر البتة. كما أنه لا يوجد تنظيم طلابي أصلاً في حزب العمل، ذلك أن الحزب كله كان يمكن اعتباره تنظيماً طلابياً بسبب غلبة الطلاب على تركيبته التنظيمية. يمكن الافتراض أن الورقة أضيفت إلى الملف قبيل تحويله إلى محكمة أمن الدولة، بغرض تبرير عدم شمولي بالإفراج مع بقية أفراد مجموعتي. لكن إذا مشينا مع هذا الافتراض، يبقى السؤال لماذا جرى استبعادي أصلاً لكي يحتاج الأمر إلى تبرير، ولماذا قررت المحكمة (أي شعبة المخابرات) حكمي بالمدة القصوى، ولماذا لم تكتف بها، بعد انقضائها، بل أضافت عليها سنة وثلاثة أيام؟

عقب الإفراج الواسع المذكور، جاء رئيس الفرع الجديد (كان سلفه في المنصب قد قضى في حمام إحدى الشاليهات الفخمة على شاطئ طرطوس) لزيارة السجن في عدرا وقد بقي فيه ما لا يزيد عن خمسة وعشرين سجيناً، موزعين على خمس مهاجع. حين دخل مهجعنا، قاومت شعوراً غامضاً بالحرج قبل أن أبادره بالسؤال عن سبب استمرار سجني بعد الإفراج عن كل أفراد مجموعتي، فقال بعد أن تأكد من اسمي، “انت صاحب مشاكل”. ولكنه أردف بجدية، وكأنه شعر بسخف ما يقول، “لم تنته حركة الإفراج وسيشملك قريباً”. تبين بالطبع أن كلامه كاذب. ولكنه ما أن غادر المهجع حتى توجه إليّ أحد السجناء، وهو من القياديين البارزين في اليسار السوري: “لم تعجبني مطالبتك الفردية، ليس من المستحب تقديم مطلب شخصي هكذا”. “إذا كان كذلك، لماذا لم تقدم مطالبة جماعية، بما لك من وزن”؟ سألت. قال “أنا لا أطالب بالإفراج عني. من يعمل في السياسة عليه أن يتوقع السجن وأن يتحمله”. يضمر قوله هذا أنني في استفساري ذاك، عبرت عن ضعف.

هكذا كان تصورنا عن موضوع السجن. كان يبدو لنا من المخجل أن يطالب سجين سياسي بالإفراج، لأن في هذا علامة ضعف، ورسالة هزيمة واستجداء لعطف السلطة. لم يكن هذا الأمر معلناً، لم نناقشه فيما بيننا. والراجح أن هذا هو سبب الحرج الغامض الذي أوشك أن يمنعني من الاحتجاج على استبعادي من الإفراج. على أن احتجاجي كان خجولاً ودون أي متابعة تالية، فكان بالتالي عديم القيمة.

المقاومة، في وعينا، كانت تعني أن تقبل السجن وأن لا تبدي امتعاضك منه. يمكن المطالبة بتحسين شروط السجن، هذا هو السقف، أما أن تظهر عدم قدرتك على تحمل السجن بأن تطالب بالإفراج، فهذا غير مقبول لأنه علامة ضعف يمكن فهمها على أنها بداية تنازل سياسي.

المطالبة بالإفراج كانت تنطوي، في تصورنا، على الاستعداد لتقديم التنازلات، والتوقيع على اي شروط مقابل الإفراج. لماذا لا يحتج السجناء على سجنهم التعسفي؟ لماذا لا يحتج من لا يوجد أي دليل على نشاطه أو انتمائه للحزب الذي يسجن بتهمته؟ (هذا ينطبق على عدد كبير من السجناء في ظروف العمل السري والقمع المعمم). حتى لو كان السجناء هم من مناضلي حزب ما محظور، لماذا لا يحتجون على سجنهم بكل الأشكال الممكنة للاحتجاج؟ لماذا لا يساهمون في زعزعة القناعة المستسلمة أن السجن السياسي طبيعي ومألوف، وأن من الطبيعي والمألوف أن يكون هناك سجان ظالم وسجين صامد؟ الصمود هنا يعني القبول والتأقلم مع الأسر وانعدام الحرية.

لا تقبل كل العصافير الحياة في القفص. عصافير الدوري مثلاً لا تقبل الطعام الذي يقدم لها طالما هي في القفص، تموت أو تعود إلى حياتها الطبيعية. لذلك لا تجد من الناس من يسعى إلى “التمتع” بعصفور دوري في قفص. وعليه، ليس من “الطبيعي والمألوف” أن تجد دورياً في قفص.

سيقول أحد ما إن السجناء في سورية اليوم يموتون في السجن دون حاجة للإضراب عن الطعام، فلا معنى للاحتجاج. هذا صحيح، ولكن هذا الحال السوري اليوم يرتبط بتطور صراع حاد اتخذ بعداً عسكرياً واستقر مع الوقت على تقاطع مصالح وصراعات إقليمية ودولية. لم يكن الحال كذلك في الفترة السابقة حين قضى سوريون سنوات لا تنتهي في السجون، وكانت قيمتهم النضالية تتركز في صمودهم “قبولهم” في السجن. صحيح أن تحمّل السجن والثبات في وجه القمع الذي يريد سحق السجين أمر يحسب لأصحابه، ولكن يبقى السؤال: لماذا نقبل بالسجن؟ لماذا لا يضرب سجين الرأي عن الطعام مثلاً حتى يموت أو يفرج عنه؟ إذا كان من هم خارج السجن مذررين ومنشغلين بهمومهم اليومية ومتقبلين لوجود أبرياء في السجون، أليس من المجدي أن يرفض السجناء السياسيون سجنهم بأشكال الرفض الممكنة كالإضراب عن الطعام مثلاً؟

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here