أحمد مولود الطيّار، كاتب سوري مقيم في كندا
مجلة أوراق- العدد16
أوراق الملف
ليلة عند الجّيش الحر
8\2\2013 الرّقّة
الشّمس تبتلعها الظّلمة رويداً رويداً؛ عندما كانت سيارتنا تتلمس طريقها في شوارع مدينة تلّ أبيض الّتي تكثر فيها المطبّات، توقّفت عند بناء تحيط به الجدران من جميع جوانبه، ليس مدرسة حيث كثير من الكتائب تقيم في مدارس، يبدو أنّه كان دائرة حكوميّة مهجورة استولى عليها مقاتلو تلك الكتيبة. كانت الجدران مليئة بالكتابات الّتي تسقّط الأسد، وتحيّي بالاسم الكتائب المقاتلة.
وقف أكثر من عشرة شبّان يسلّمون علينا عندما عرفوا أن صاحبي ورفيق سفري يعرف “أبو كرار” قائد لوائهم الّذي لم يكن موجوداً وقت قدومنا، حيث قيل لنا إنّه ينام في مكان آخر.
جلسنا في منتصف غرفة كبيرة، أخمّن أنّها كانت مكتب مدير عام تلك الدّائرة الحكوميّة المهجورة، حيث كلّ مكاتب مدراء العموم في سوريا تتّصف بأنّها مكاتب كبيرة وفاخرة، وأضحت الآن “غنائم” عند الجّيش الحرّ وغيره ممن يتلطون خلف ذلك الاسم الّذي بات فضفاضاً، وتلصق به أعمال نهب وسرقة لا علاقة له بها كما قيل لنا فيما بعد.
وأنا جالس في مكاني بدأت أتفحّص المكان، “كتيبة أحفاد السّنّة” كانت مكتوبة بخطّ عريض وسط الجدار، هو الاسم الّذي أطلقته الكتيبة على نفسها. حاولت من خلال الأسئلة الّتي كنت أطرحها استكشاف أين أنا ومع من أجلس، مدى التّطابق بين الاسم والشّباب الّذين اختاروه.
بات واضحاً أن “الأسلمة” الّتي تطبع الكثير من الكتائب المقاتلة في سوريا تندرج تحت أسباب كثيرة، منها التّمويل وأجندات بعض الدّول المموّلة، ومنها تديّن شعبيّ بدأ يأخذ أشكالاً تصعيديّة بفعل كمّ الألم والموت اليوميّ وينذر بتصعيد أكبر ومتواصل ما لم تتوقّف المجزرة.
كان واضحاً من خلال الحوار الّذي كان يدور مع أغلبية شباب الكتيبة، أنّ “الله” تم استدعاؤه على عجل ليقف إلى جانبهم بعد أن خذلهم الجميع، ولم يستثنوا كلّ المعارضة السّوريّة الّتي أمطروها شتماً وسباباً، ولم أسلم منهم إلا بعد أن أكّدت لهم استقلاليتي كصحافي لا أتبع أيّ طرف من تلك المعارضة. كانوا يعانون نقصاً في كلّ شيء، والأكثر مرارة على مقاتل أن تكون بندقيّته من دون رصاص. العشاء الّذي قدموه لنا بكرم كان سرديناً ومرتديلا وصحوناً صغيرة امتلأت بزيت وزعتر ولبن وبعض الخيار والبندورة. واضح أنّهم عانوا كثيراً لوضع هذه الصحون، فحالهم تقول إنّهم في قلّة.
كنت أهجس بسؤال: (ما هي الدّولة الّتي تريدون قيامها بعد سقوط النّظام؟)، يردّ عليّ خليل المعيوف قائد الكتيبة من محافظة الرّقّة وعمره ثلاثون عاماً: (أستاذ هل أنت إسلاميّ أم علمانيّ أم ماذا؟)، أجيبه مازحاً وأنا أعرف ماذا يعني بسؤاله: (أترك ذلك لذكائك بعد أن ينتهي نقاشنا، وكيف ستقيّمني). أُلحّ في أسئلتي، فيؤكد أغلبيّتهم أنّهم يريدون العدالة. يؤكّدون أنّهم قاتلوا من “أجل إعلاء كلمة لا إله إلا الله ودحر الظّلم”. ثمّ يضيف عبد الملك هنداوي وهو طالب تجارة وعمره 24 عاماً: (بعد سقوط النّظام نحتاج إلى ثورات كثيرة أخرى لإسقاط الحراميّة الجدد).
أكثر ما فاجأني في تلك الكتيبة ذلك الطّفل الكبير الّذي تحفّظ عن ذكر اسمه، وكنّى نفسه بأبي طلحة، وهو من مدينة حلب وعمره ستّة عشر عاماً. كان له وجه “يوسف” النبي الّذي حتّى الكتب السماويّة تغنّت بجماله.
عندما شاهد دهشتي من وجوده هنا، وأنّه يجب أن يكون في غير هذا المكان، ردّ عليّ بكلام كبير جدّاً، قال إنّه (طالب شهادة). قال لي إنّه قاتل في كتيبة “فتح الإسلام” في حلب، ومنذ أيّام قليلة جاءت به أمّه إلى هذه الكتيبة. يبدو أن أمّه أرادت أن تطمئن عليه وتودعه هنا، حيث يوجد استرخاء تنعم به الكتائب المقاتلة في تلّ أبيض، ولا قتال في الأفق كما يبدو في منطقة نسيها النّظام، أو أُجبر على نسيانها.
عندما ذهبنا أنا ورفيقي إلى النّوم في الغرفة الّتي خصّصوها لنا، سألني أبو طلحة: (هل أوقظك أستاذ لصلاة الفجر؟)، ابتسمت في وجهه وربّتُّ على كتفه وتمتمت كلمات غير مفهومة.
في الصّباح غسلت وجهي وانطلقت إلى الرّقّة.
الطّريق إلى الرّقّة
عند حاجز الفرقة 17 توقّف قلبي
مشياً إلى مركز تجمّع الميكرو باصات، كنت أتفحّص الشّوارع ووجوه النّاس، أحاول معرفة إجابات عن أسئلة كثيرة، فسوريا والسّوريّون بعد الثّورة هم غيرهم قبلها، كلّ شيء تغيّر، الجدران تنبئك بذلك قبل الجميع، الكتابات الكثيرة وبكلّ الألوان تحيّي الكتائب المقاتلة و”يسقط الأسد” مكتوبة في كلّ شبر على تلك الجدران. أعلام الثّورة مرفوعة فوق أكثر المباني الحكوميّة، وعندما ترتفع تلك الأعلام في منطقة حدوديّة فهذا يعني أنّ “السيادة” الّتي يتكلّم عنها النّظام قد خُدشت كثيراً.
أخذت مكاني في الميكروباص في المقعد الأماميّ وراء السّائق مباشرة. كنت قلقاً من كمبيوتري المحمول وبعض معدّاتي الصّغيرة، وما يمكن أن تسبّبه لي من مشكلات. أشياء أخرى قديمة سبب ذلك القلق، إنّما راهنت على الفوضى الّتي يعيش فيها النّظام وفقدانه الكثير من مرتكزاته، لذلك قرّرت العودة إلى سوريا.
بتثاقل شديد كما هي أيّام سوريا الآن؛ خرج الميكروباص من مركز الانطلاق يبحث عن الطّريق العامّ الذّاهب إلى الرّقّة. في أوّله يوقفنا حاجز للجيش الحرّ، شابّان فارعا الطّول، قويّا البنية، يحملان سلاحان آليّان ويرتديان بدلتين صحراويتين مرقّطتين. كان منظرهما مهيباً، بإشارة من يد أحدهما توقّف الميكروباص، حيّانا بعبارة (السّلام عليكم)، بوجه مشدود وعيون غائرة تفحّص وجوهنا، ثمّ أمر السّائق بمتابعة الرّحلة.
من خلال زجاج النّافذة؛ سرّحت نظري في السّهول المترامية والأفق الممتد غير مصدّق، أحدث نفسي: هذه سوريا!
أراقب الطّريق وأتفحّص كلّ شيء، أقرأ الشّاخصات (اللوحات الّتي تحمل أسماء المدن والقرى) الّتي تمرّ أمام ناظريّ تباعاً، أحسد تلك القرية الصّغيرة الّتي سمّت نفسها أو أسموها بـ “المستريحة”، تمنّيت أن تكون سوريا كلّها مثل تلك المستريحة.
تتوالى حواجز الجيش الحرّ من قرية إلى أخرى، شباب بين العشرين والثّلاثين من أعمارهم يحملون بنادقهم بزهوّ، يرتدون ثياباً لا يوجد أيّ ضابطٍ لها. فعند الحاجز ذاته هناك من يرتدي الّلباس المدنيّ، وزميله الّذي يقف بالقرب منه يرتدي بزّة عسكريّة. فوضى لباس تُذهب الهيبة.
ركّاب الباص الصّغير صامتون، لا صوت يعلو فوق صوته الّذي يشير شخيره إلى وقت اقترابه بلوغ سن التقاعد.
حاجز للجّيش الحرّ عند قرية “حزيمة”، تلاه حاجز آخر. بين الحاجزين قرابة كيلومتر فقط! الرّقّة الآن على بعد 20 كلم.
جنود بلباس عسكريّ يلعبون قريباً من الطّريق العامّ. اختلف الرّكّاب: (هل هؤلاء الجنود هم من الجّيش الحرّ أم النّظامي؟)، بين قائل إنّهم من هنا، وآخر يقول إنّهم من هناك، قلت: (كلّهم سوريون). هي الجملة الوحيدة الّتي نطقتها طوال رحلتي.
الرّقّة على بعد 5 كم تقريباً. حاجز الفرقة 17 بات واضحاً أمامنا، هو الحاجز الوحيد في كلّ الـ 90 كم، المسافة بين تلّ أبيض والرّقّة. للحظة اشتغل دماغي، طلبت من المرأة الكبيرة السّنّ الّتي تجلس أمامي أن تضع عباءتها فوق الحقيبة الّتي في داخلها كمبيوتري المحمول، وافقت من دون أدنى تردّد. عاد القلق والخوف ينتابني، كلّ الشّوق والحنين الّلذين كنت أحملهما زالا تماماً، وحلّ محلهما انتظار ممضّ. لماذا جئت بقدميَ إلى مجهول؟! لمت نفسي كثيراً.
طابور السيّارات المنتظرة دورها في التّفتيش كان طويلاً، أكثر من عشر سيارات أمامنا تنتظر، كذلك الطّابور في الجهة المعاكسة الذّاهبة إلى تل أبيض.
دقائق مرّت طويلة، سمعت السّائق يقول: (أعطوني هويّاتكم جميعاً لو سمحتم). تهادت السّيّارة، توقّفت تماماً، في توقّفها توقّف قلبي!
التفتُّ عبر زجاج النّافذة إلى محرس الجنود الواقع إلى شرق الطّريق، صورتان لبشّار الأسد وتحتهما كتب: “الله سوريا بشّار وبس”. منظر الجنديّ النّظامي ببدلته المرقّطة وتعابيره القاسية وهو يتناول الهويّات من يد السّائق بدا لي مرعباً. ذهب بها إلى المحرس، وهو غرفة صغيرة لم أتبيّن من في داخلها. بعد دقائق كأنّها الدّهر كلّه عاد وأخذ يوزعها علينا وهو يقرأ أسماءنا بصوت عال. صاح باسمي، ناولني هويتي، التقت عيوننا، شاح عنّي بوجهه إلى راكب آخر. شعرت بالانتصار. بعد دقائق ليست كثيرة كنت والفرح نتسابق لنعانق الّذين تركناهم منذ خمس سنوات.