كلٌّ يدعي أنه الفرقة الناجيًة

0

بسام أبو طوق


مجلة أوراق العدد 13

مقالات

شئنا أم أبينا، وافقنا أو اعترضنا، فسرنا أو بررنا، استعدنا وقائع التاريخ، وحقائق الجغرافيا، والمذاهب المقارنة والايديولوجيات المتضادة، أصل القوميات والأديان نظريات تكون الأمم، وحيثيات تشكل الدول، العقود الاجتماعية، والمبررات التاريخية.. الخ، فشعاع الشمس لا يحجب بغربال، ونور الحقائق يشتت الأبصار، وعصف الوقائع يأخذ بالألباب، سوريا.. جريحة، مقسمة، منهوبة، قطعة من الجنة يتناهبها الغزاة من كل حدب وصوب، ومن كل زاوية وزاروب. مناطق سيطرة ونفوذ لقوى الامر الواقع، محلية وإقليمية وعالمية. كل يدعي غراما بليلى، وكل يدعي أنه أم الولد. وكل يسعى للحفاظ على حصة من الأرض والمياه والنفط والبشر.

نتكلم عن استقلالية القرار وحماية الوطن، استقراره وسيادته ووحدته وتنوعه، ونتجاهل العناوين الأساسية لهذه الأهداف، وحدة السوريين، تآخي السوريين، تسامح السوريين، حرية السوريين، رقي السوريين، كرامة السوريين..

كل يدعي أنه يمثل الفرقة الناجية..

لكن التمثيل الحقيقي لوحدة السوريين ومصالح السوريين وحقوق السوريين هو مسؤولية وشجاعة ومبادرة وفكر.

ما هي الديموقراطية؟ هي ممارسة حقيقية لحرية الفرد والمجتمع، وكم كنت عظيما وصائبا يا فولتير في قولك: أختلف معك ولكني مستعد ان أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك. وكان هذا ملخص المبادئ المحفزة لعصر الأنوار.. عصر الحريات.. عصر النهضة الفكرية والإنسانية.

لنسمح للآخرين بالكلام والتعبير، عندها يحق لنا أن نمنعهم من إشهار السلاح والتعدي، فالمقاومة مشروعة في وجه الباغي والظالم والمستبد، وليس في المقاطعة والمحاصرة بحجة التاريخ والجغرافية والعقائد، وهي كلها براء من مغالطات المنافقين والكاذبين.

الاعلام هو صفحات الحرية، هو أنوار اليقين وقناديل الحقيقة، هو شجرة الحياة الخضراء، هو تعددية الفكر والثقافة، وتنوع الإنجاز البشري، هو حق الاختلاف، ونصاعة المنطق والبراهين.. هو العلم والتعليم في مواجهة الجهل والتجهيل.

لكنه سلاح ذو حدين، حسب استعماله وحسب توجيهه. رايات الحق والخير والتضامن، لا تختلف عن رايات الباطل والشر والاستبداد، الا بالفكر الناهض، والروح الحرة، والقدرة على التسامح، واحترام التعددية، والسعي الى الحداثة والخلق والابداع والابتكار.

هي دعوة للحركة والنهوض والحياة في وجه الجمود والقعود والموت، هي دعوة للحرية والاستقلال والوحدة في وجه الاستبداد والاستعباد والفرقة، بهذا يتميز أهل الخير والحرية والإنسانية، وبهذا يتميز دعاة الوطنية والديموقراطية، فهي دعوة الى سوريا معاصرة إدارة ومؤسسات، تعتمد المناهج الحديثة.. ويسقيها حب الوطن والنيات الحسنة.

اما الاستقواء والاستعداء وثنائيات من ليس معنا فهو علينا، فهذه ليست من شيمنا واسمحوا لنا..

ندعو الى عرس ديمقراطي، تملأ زغاريد الحياة والتفاؤل، جنباته وفسحاته، فتتلاقى مكونات الوطن، على تنوعها وتفردها وتشاركها، وترفع لافتات الحوار والمصارحة والفهم والتفهم، المصائر المشتركة والتحديات المشتركة. تفكك وتعزل طفح ورواسب الطائفية والعصبية والعرقية، الموروثة من الماضي البعيد والمستثمرة في الحاضر القريب، ما يجمع المحتفلون هو حب الوطن والتاريخ والتطلعات المشتركة. ومن هنا نبدأ.. من تحديد الشراكة في الانتماء، والشراكة في الأهداف. إنّه المستقبل.. ينهل من ثورية الحاضر ويحاصر أشباح الماضي.. من مظلوميات ومؤامرات، ليرعى تفاهما عاقلا “وموضوعيا”، ويؤسس لخطاب وطني معاصر.

وللخطاب الوطني أسس.. قبل الاضاءة عليها فلنتكلم عن مشروعه هو مشروع أكثر ديمقراطية وأكثر عدالة وأكثر تفتحا، يستنهض كل حقوق وواجبات أفراد ومكونات الوحدات الجغرافية، هو الضمانة والحماية من المشاريع حاملة الاستبداد، والفساد، والتوزيع غير العاد، للثروة والمصادر والحقوق والملكية. هو منسجم ومتناغم مع الطبيعة والجغرافية والبيئة والتجمعات البشرية، هو العلم والثقافة والتربية والأخلاق، هو استثمار متوازن وعادل للأرض والبشر، وهو يتطلب إشاعة مناخ ثقافي عام يتّسم بالتسامح والتنوع والتعددية، ثقافة احترام الرأي الآخر، والفكر الآخر، والتاريخ الآخر.

فالكيان السوري يتشكل من مجموعة تواريخ، مجموعة قوميات، مجموعة لغات، مجموعة أديان، حتى المواسم السورية، هي مجموعة تعاقبات، لفصول أربعة، واضحة الاختلافات، واضحة التأثيرات، واضحة المنتجات. وكل فصل يتناغم مع الفصل الثاني، لا ربيع من دون شتاء، ولا خريف من دون صيف. وفي العناوين الأولى لحقوق الاختلاف والتنوع: حق أبناء القوميات المتعددة في دراسة لغتها القومية كلغة ثانية، حق يترسخ ويتعمم في التجمعات القومية وفي عموم البلاد.

كمثال نجد أن حي الأكراد هو الأكثر عراقة في دمشق، فهو من أهم الأحياء، تاريخيا وسكانيا إذ تتجاوز تأثيراته حدوده الجغرافية، لتعم أحياء ركن الدين والمزرعة ودوار شمدين والعدوي. ومن عاش أو درس في دمشق في منتصف القرن الماضي يعي ويستوعب.

ودائما كنت أستغرب القمع الحاصل لدراسة وتدريس اللغات الأصلية والتاريخية لتنوعات السكان، بينما تصرف جامعات ومعاهد الغرب الغالي والرخيص، للتعرف على تلك اللغات في مواطنها. إنه الجهل والجهالة والظلامية، في مواجهة العلم والنهوض والتنوير. وهناك حق معتمد لتابعي الأديان المختلفة في دراسة دياناتهم.

وفي الماضي القريب، طلب الكثير من السوريين المسلمين المتنورين من أولادهم، عدم الخروج من قاعات الدراسة عند تدريس حصص الديانة المسيحية، ومثلهم فعل المسيحيون المتنورون عند تدريس حصص الديانة الاسلامية، مما أسهم في تفهم ابناء الديانتين للديانة الأخرى. عدا عن الفائدة الأهم، حيث يعمد المدرسون الى الحديث عن الاختلافات بأدب واحترام.

هل نحن مستعدون لنتصارح ونتسامح؟

هل نحن مستعدون للاعتراف بالأخطاء التاريخية؟

هل نحن مستعدون للقبول بالمواطنة الشاملة؟

هل سيتبادل المتحاورون التحيات والمجاملات والايجابيات؟

التاريخ يراقبنا ..

وفي التفاصيل ..

تعاني المنطقة من كوارث طبيعية واصطناعية، ناجمة عن فشل في إدارة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسكانية والبيئية. وبدل أن تضع إدارات الأمر الواقع حلولاً للأزمات، فهي تولدها وتطورها.

ويقع على عاتق القوى الوطنية والديمقراطية، والممثلين المنتخبين من أهلهم وجمهورهم. في عموم مناطقهم، تقديم البديل الحي الإداري الناجح والمعاصر، في مواجهة فشل إدارات الامر الواقع، لا أشير إلى حراك سياسي، بل نشاط إداري متقدم، علمي وحديث ومنهجي، يرعى مصالح الشعب، ويكافح الأزمات المتلاحقة (أزمة المياه – أزمة الطاقة – أزمة الصحة – أزمة التعليم …. الخ)

هل المشروع الوطني المأمول، قادر على استنهاض كل الموارد المتاحة (مالياً وبشرياً ودعماً دولياً وأممياً)..؟ أم هي سياسة ودعاوة، واعتماد شكلي على الحقوق، في مواجهة الباطل ..

يتعين أن نرفع من قيم ومناخ التسامح والتفهم والاهتمام والاستثمار، في التنوع الثقافي والديني والعرقي واللغوي، وإشاعة الثقة بين المكونات السورية، وتحميل الفكر القومجي والطائفي كل أسباب الظلم والفوضى تاريخيا، ولدى أي باحث جدي الكثير من البراهين.

هل يكررون إنتاج التفرقة القومية والطائفية، بحجة الشعبية والحفاظ على جمهورهم (وهو منها براء)؟ أم يكونوا شجعاناً وصادقين مع أنفسهم ومع جمهورهم؟ هل يكونوا قيادات تاريخية وفعلية وإدارية ومستقبلية لشعبنا المنكوب؟

يتعين الإيضاح والصراحة بأن هناك أزمات قادمة، أكثر سواداً من الحاضر.. أزمة مياه – أزمة بيئة – أزمة موارد للحياة – أزمة صحة – أزمة تعليم – أزمة احتلال واستيطان واستيلاء – أزمة حقوق انسان.. (في غالبيتها ناشئة عن فشل وجهل وتجاهل وفساد و إفساد حكم وسلطة الأمر الواقع)، نحن بحاجة ماسة إلى أفكار ومناهج خلاقة، وإلى مشاريع مدروسة وناجحة وتلاحم وتآخي وثقة متبادلة.

أما مشاريع ومقترحات الدساتير والاتفاقات السياسية، فهي تنظيم وتدعيم رؤِيتنا لمناخ ثقافي وحضاري مشرق.

نعود هنا للإضاءة على أسس الخطاب الوطني المنشودة:


1- الاعتراف السياسي بحقوق كل مكونات التعددية السورية، في المواطنة المتساوية في إطار الدولة السورية الواحدة.

2- اللامركزية الادارية نصاً ومضموناً، مفهوماً وتطبيقاُ، ثقافةً ومعرفةً.

3- الإصلاحات الدستورية والقانونية، المقاربة لآمالنا في عرس التوافق الوطني التاريخي.

التحدي الوجودي .. هو في رفع قيمة الثقافة واللغة، وتعدديتها الحضارية السورية، فهي المناخ والضرورة، لكل المواثيق والإتفاقات والتعهدات السياسية وملحقاتها الإدارية.

عليه نبني الوطن الجديد المتجدد الناجح، عنوان المدنية والتعددية والديمقراطية لنفتتح عرسنا الديمقراطي.