كريم النجار: المدينة تتهاوى

0

ماذا تبقى؟

الوجوه لم تعد تعلن عن ملامحها المعتادة، الشوارع غيرت مساربها، وكثرت منعرجاتها.. أحد ما يصوّب نظرة كسيرة نحو الجدارية المتدلية من السماء، فتشيح عنها أنياب الذئاب وتتقافز حولها بنات آوى بانتعاش مريب.

للحظة خالها دهرًا، شعر بأنه يتهاوى في وادٍ عنيق، تفحص من جديد العباءات الملفوفة على أجساد بضة، سال لها لعابه ولطع شفتيه كمن ذاق فاكهة طرية، ها هو يعود إلى التعوّذ من زمن التوابيت واليافطات السود التي تتقاطر كمطر غريب، توابيت بأجساد لم تنضج بعد، ثقبها الرصاص المنهمر من هناك بلا رحمة في عتمة المتاهات والدهاليز المخفية تحت الأرض، تناهى لسمعه صوت الشيخ وطقطقة الفناجين وظل الرجال المتثائبين.

صرخ بأعلى صوته، لم يسمعه أحد

كأنّ المدينة تحولت فجأة إلى صحراء من السكون، فأجابه صوت كأنه آتٍ من أعماقه يطالبه بالرحيل.

تلفت ليرى طفلة بساقي نعامة وقرون وعل تومئ له وتنثر حوله بخورًا وترتل صلوات مبهمة، برهة أخرى تجمعت حوله نساء لا يعرف من أين أتيْن، منهن محمرات الخدود وبعضهن تبرز حلمات أثدائهن الموردة، وتحيط الشهوة أجسداهن وينظرن إلى وسطه، أخريات تحزمن بعباءاتهن السود وأخذن بالردح، وخلفهن جوقة من النساء حافيات مرسلات شعورهن وكاشفات عن سيقان متلألئة، كن ينشدن بصوت خافت أغنية قديمة عن الرجال الذين غادرتهم مدنهم فهاموا على وجوههم.

صرخ بأعلى صوته، تلفّت فلم يرَ أحدًا

نادى باسمه، وتذكر أن إحدى النساء اللواتي تولهّنَ به في البلاد الغريبة أسمته “القديس”. لا يعرف لماذا، لكنه علل ذلك بشكل وجهه المتناسق الملامح ولحيته المسترسلة، أنه مجنون، مجنون فعلًا وبشكل رسمي ويروي القصص.

قال له الولد المار سريعًا.. نعم لقد رأيتك في المصحة قبل عام.

لكنه كان هناك يبيع الملابس القديمة.. تعلوه شاهدة كتب عليها “الروائي الكبير” خطها صاحب الدكان في مدينة الزرقاء كتعويذة للمشترين.. كانت الفتيات النبهات يمررن عليه ويهمسن له بكلمات حزينة، ثم يتلون صلاة الغائب ويقرأن في كتاب مفتوح ترى الحروف الكبيرة على صفحاته، فيرمي المارة لهن بقروشهم دون اكتراث.

لقد قرأت قصصه كلها، كان بين الحين والآخر ينتفض ويقول إن غابة الرخام تكبر والناس ساهمون، تلك الغابة التي تعالت بشواهدها المكفهرة ولم يكن متسع من الوقت للمارة كي يشاهدوا زهورها البرية، زهور برية تنبت فوق دماء جافة، ولكنهم لم يسمعوا أيضًا عواء الذئب في جوف الأرض، أنهم منشغلون بصوت المذيع ذي العجيزة الكبيرة والصوت الهادر.

*

في الطابق العاشر رمى نرده فتلقفه السيد الواثق من نفسه بصفعة أزالت كل تاريخ بلاده، وبصفعة أخرى أنساه أسمه، فثالثة جعلته يستفيق على عالم لم يتخيله بعد.. ترك خفة يد السيد تمرح على جسده وغاب وسط خشبة المسرح يوزع أدوار الممثلين ويرشد الأعمى إلى عصاه.

– أيها القديس.. أيها القديس

– أشششش، دعوا الممثلين منسجمين في أدوارهم، فلا دور صغير وآخر كبير، كل يتألق بدوره.

– لكن أيها القديس إنّ الأرض تضيق والشواهد تتسع.

صرخ قائلًا: دعوها تضيق وتتسع، ففي الزمن الغابر سمعنا قصصا أشد روعا ولوعة، حيث الناس تأكل غذاء الحيوان والأب يقتل أبنه والزوجة تأكل لحم زوجها.

– أشششش.. دعوهم منسجمين ولا تحدثوا ضوضاء.. أضواء المسرح ستبدد الظلمة، أو ربما ستجلد الكلام.

والنساء، في الطرقات من لهن؟ إنهن يبيعن اللبن مع اللذة، وخوار الجاموس بكف ماء كدر.

– أيها السيد هل سمعت بقصص الأولين؟ وذاك الهندي الحافي الذي ترك جيش “الكركة” عند كرمة علي يبعثر أحجاره في أحضان النساء.

– أيها السيد

– أشششش.. لا تتعب قدميك، أترك هذه المدينة الخاوية، لعل جدرانها تطبق على بعض، وتفر من روازينها الخفافيش.

أترك عشبتها لبكارة الصمت ولا تجرح سكونها.

ربما سيدوم الغياب، من يعلم؟

ربما سيتساقط الرجال من السماء في الشتاء القادم، وينبتون في أرض ليست رخوة.

إنها المدينة تتهاوى

تتهاوى

ها هي جدرانها تنشق

تتصدع

تطبق على بعضها

وتنهار.

*الترا صوت