مع بداية أزمة كورونا في عام 2020 ومع توقع تراجع الأحوال المادية للناس وبقاء مستقبل الوباء أمرًا مبهمًا حينها، قدمت أمي لي نصيحة ذات ليلة بأن أخفف حجم إنفاقي، خصوصًا فيما يتعلق بما هو رفاهي، وأن أحصر مشترياتي حين يتعلق الأمر بالمجوهرات والإكسسوارات بالذهب الأصفر، فأتجاوز بذلك الأمر من الزينة إلى الادخار. قالت: “افعلي كما تفعل العربيات”.
كنت قادرة على فهم وجهة نظر أمي جيدًا، كما أستطيع أن أتفهّم دوافعها ومخاوفها؛ فتاريخ عائلة أمي ورحلتها القادمة من بلاد القوقاز إلى تركيا، ثم إلى سوريا، ثم إلى الأردن، بكل ما فيها من فقد وخسارات وأسى، علمتها جيدًا كيف تفكر بالمستقبل بشيء من الخوف والريبة. وجعلت حساباتها حين يتعلق الأمر بالادخار دقيقة؛ فالخبرات الحياتية المتراكمة أحيانًا أهم وأكثر فاعلية من الحصول على شهادة في التمويل أو المحاسبة.
والحقيقة أني لم آخذ نصيحة أمي تلك على محمل الجد وقتها. قلت لنفسي إن الزمن تغيّر وإن حياتي أكثر استقرارًا وأمانًا حين أقارنها بحياتها وتجاربها، لكن لم يمنعني ذلك من التفكير بتلك النصيحة التي جاءت في وقت كان فيه الخوف يسيطر على العالم أجمع، وخصوصًا حين يتعلق الأمر بجملتها الأخيرة: “افعلي كما تفعل العربيات”، والتي أثارت العديد من الأفكار في رأسي عن المجتمع العربي الذي ولدت ونشأت فيه.
لأن المجتمع العربي في أصله مجتمع قبلي فإن للعقلية والأفكار القبلية حضورًا قويًا يحكم علاقات الناس ببعضهم البعض، ويحكم علاقات الناس بالأشياء حتى اليوم. لذا، لا نستطيع أن نناقش علاقة النساء بالذهب بمعزل عن حقيقة قبلية هذا المجتمع. فالصراع القديم مع الطبيعة الصحراوية القاسية من ناحية، والغارات والغزوات والتنافس على الماء والمراعي وكثرة الترحال من ناحية أخرى، كانت جميعها جزءًا أساسيًا من حياة تلك القبائل؛ مما كان يتطلب حالة دائمة من التأهب والاستعداد لمواجهة كل ما يمكن وصفه بالخطر؛ سواء كان مصدر هذا الخطر الطبيعة الصحراوية القاسية أو هجوم قبائل أخرى لغايات السلب أو النهب أو الثأر. وكان من أهم أشكال حالة التأهب تلك هو القدرة على الهروب أو الرحيل بأسرع وقت ممكن.
ولأن المنطقة ككل بطبعها مشتعلة على الدوام، ولم تشف يومًا من حالة الحروب والثورات وموجات اللجوء والهجرات القسرية -حتى بعد تجاوزها مرحلة حكم القبائل وتنازعها-، ولأن الإنسان ابن بيئته تتشكل عقليته بما يتكيف مع ظروفها، فإن نظرة وأهداف النساء من امتلاك الذهب كمعدن نفيس تختلف كليًا عن أهداف النساء في المناطق الأكثر أمانًا واستقرارًا حول العالم؛ ففي ذهن النساء المهددات بخطرٍ ما دائما يصبح الأمر أقرب لجمع أموالهن في قطع يسهل حملها أو ارتداؤها على الدوام والهرب بأخف وأثمن حمولة ممكنة.
وبعد استقراري وتنقلي في أوروبا اكتشفت فرقًا كبيرًا في نظرة الأوروبيات، وخصوصًا الألمانيات، لامتلاك المجوهرات، فهن أكثر ميلًا لشراء الأحجار الكريمة وتقتصر مقتنياتهن على عدد محدود من القطع ليس لغاية الادخار وإنما يورثنه لحفيداتهن؛ ولا يشغل تفكيرهن تأمين المستقبل فالدولة تتكفل بذلك وتزيح عن كاهلهن عناء القلق.
في مرحلة لاحقة، تجاوز الذهب في ذهنية المرأة العربية أهميته كطريقة للادخار في أوقات الترحال والحروب، ليصبح أيضًا رمزًا ومؤشرًا لما تمنحه لها عائلتها وزوجها من التقدير والاحترام والسلطة. فالذهب يشكّل الجزء الأهم من المهر الذي يقدمه الرجل لعروسه؛ فيقدم لها من الذهب بالقدر الذي تمليه عائلتها كضمان لالتزامه وإخلاصه واحترامه لها حين يتقدم لخطبتها. لذا، ظلت هذه المسألة وحتى اليوم أمرًا مثيرًا للجدل ونقطة ينهار عندها الكثير من عروض الزواج وقصص الحب. فكثيرًا ما يتحول الأمر لما يشبه التنافس على لقب العروس الأعلى مهرًا، مما يشكل ضغطًا ماديًا هائلًا على العريس. وهنا يظهر الاختلاف الذي تحدّثَتْ عنه أمي سابقًا في هذه المقالة؛ ففي الثقافة الشركسية، لا وجود لفكرة المهر، ولا وجود لمادة الذهب، كشرط مهم للتفاوض وإتمام عملية الزواج.
وفي الحقيقة، فإن تقديم الذهب للعروس لا يقتصر على العريس فقط؛ فعائلة العروس تقدم لها الذهب أيضًا وكطقس إجباري تقريبًا. فإذا كان العريس يقدمه كضمان لوفائه وإخلاصه وكطريقة لمنحها شيئًا من الأمان المادي، فإن عائلتها تقدمه كمساعدة للعروسين، وكطريقة لاستعراض ما تتمتع به عائلتها من وفرة، وبالتالي استعراض ما يستطيعون منحه لها من سلطة وأمان مادي على العريس مجاراتهما. ومنهم أيضًا من يقدمه كوسيلة لتقريب العروسين؛ فالذهب الذي تحصل عليه العروس كمنح وهدايا يبشر بتحقيق الرفاه والأمان لمستقبل كلا العروسين، وليس للمرأة فحسب.
مع ذلك، ظل جمع الذهب في حياة المرأة العربية غاية حقيقية تسعى من خلالها لإظهار مدى الوفرة والرفاهية والسلطة التي تتمتع بها. ولأن حياتها دائمًا مهددة بترك الشريك أو اضطهاده لها، حيث إنّ المجتمع ذكوري ومتحيز بامتياز، ولأن عائلتها تعارض غالبًا فكرة طلاقها وانفصالها لأن الطلاق ظل لفترة طويلة شيئًا مشينًا يسيء للمرأة في هذه المجتمعات، فإن المرأة العربية تجد نفسها نتيجة لكل تلك العوامل مضطرة للاحتفاظ بكل ما تحصل عليه من مال من خلال تجميده في قطع ذهبية كخطة دفاعية تعزز شعورها بالقوة والحماية.
مع تعليم النساء وخروجهن إلى العمل بدأت المعادلة تتغير خلال السنوات الأخيرة؛ فقد توفرت بذلك طرق ووسائل جديدة وأكثر فاعلية من تخزين الذهب لضمان مستقبلهن وشعورهن بالأمان. وبكل تأكيد، وقد أثرّ ذلك على مدى إقبالهن على شراء الذهب والتفكير به كوسيلة الضمان الوحيدة، وأثر على مدى تقبلهن لفكرة التبعية للزوج والخضوع لأعراف القبيلة. فمن خلال التعليم والعمل صارت المرأة العربية أكثر ثقة بنفسها وباختياراتها وقدراتها.
كل هذه العوامل، جعلت المرأة العربية أكثر قدرة على اختيار شريكها بنفسها. وأصبحت قدرتها على اختيار شريكها تعني بالضرورة تحيزها له حين يتعلق الأمر بما تمليه عليه عائلتها عند طلب المهر حين يتقدم للزواج منها.
وهكذا صارت النساء يلجأن إلى أساليب وحيل للالتفاف على العادات والتقاليد التي يصعب تجاوزها أحيانا. ومن أهم هذه الحيل شراء الذهب المزيف (الذهب الروسي والإيطالي)؛ فرغم سعره الزهيد، إلا أنه يشبه إلى حد كبير جدًا الذهب الحقيقي في مظهره ومصنعيته لدرجة يصعب تمييزهما عن الذهب الحقيقي. وهكذا وبالاتفاق بين العروسين يُخفف عن كاهل العريس دفع مبلغ كبير في مقابل قطع معدودة من الذهب، ويصبح ارتباطهما ممكنًا بعيدًا عن التصادم مع أعراف وتقاليد مجتمعهما.
إن التغير الحاصل في السنوات العشرين الأخيرة بالذات، ينبئ بتطور كبير في طبيعة علاقة النساء بالرجال، وحتى في علاقة النساء بأنفسهن، ومدى تقديرهن لذواتهن. فالنساء الآن يتحولن من طالبات للأمان، قلقات على الدوام بشأن مستقبلهن إلى مانحات له من خلال استقلالهن المادي. وتبتعد بذلك العلاقة بين المرأة والرجل عن فكرة دفع الضمانات قبل أن تبدأ حياتهما معًا، والتي صارت تبدو فكرة ساذجة ومتحيزة ومرهقة بطريقة ما. وأنا كامرأة نسويّة، يسعدني بكل تأكيد هذا التطور وأرى فيه الكثير من الإيجابية، حتى وإن رآه البعض هامشيًا؛ فهو يجعل العلاقة بنظري صحيةً ومنطقيةً ومتكافئةً أكثر من ذي قبل، بعيدًا عن ضغوط مادية لا تبرير لها ولا انصاف فيها.
- هذه هي النسخة العربية من المقال المنشور بالإنجليزية في مجلة Only Connect البريطانية
- الترا صوت