أحمد العربي، كاتب وناقد سوري
أوراق 19-20
نقد
قيامة اليتامى رواية أحمد خميس تعتمد أسلوب السرد على لسان الراوي، وفي كثير من الأحيان ينتقل السرد الى لغة المتكلم، على لسان أحد شخصيات الرواية المحورية.
تبدأ الرواية من يعرب الشاب السوري ابن مدينة الرقة، الذي يعيش في باريس، حيث تسرد واقع حياته اليومية هناك. ومن خلال تتبع السرد، تسترجع الرواية ماضيه، وماضي حياة الشبكة المحيطة به من أصدقائه الذين تعرّف إليهم وتعايش معهم هناك، اصدقاؤه بشارة الفلسطيني، وسلينا العراقية، وبرناديت الفرنسية، وغيرهم كثير.
يعيش يعرب حياته في فرنسا بعد طلبه اللجوء إليها، وحصوله عليه بصفته أحد ناشطي الثورة السورية التي انطلقت في ربيع ٢٠١١م، كان من قادة الناشطين في المرحلة السلمية في مدينته الرقة، ومع تسليح الثورة، صار له دورٌ مع ناشطي الثورة من الجيش الحر، وعندما انقلب العالم كله على الثورة السورية، وبدأ ظهور الإسلاميين المتشددين، مثل داعش، أصبحت حياته في خطر من النظام المجرم ومن داعش، فما كان أمامه سوى الخروج من سوريا، حيث استقر في باريس.
تسير حياته وفق روتين محدد في بيته، وفي المقهى، وفي لقائه بالناشطين الهاربين من ديارهم من بطش المستعمر، أو الانظمة المستبدة. أحد أهم أصدقائه بشارة الفلسطيني ابن مدينة اريحا، الذي غادر فلسطين الى فرنسا حاملا معه جرح فلسطين النازف منذ عقود، فلسطين التي يحتل الكيان الصهيوني جزءاً منها، والتي يعيش بعضها الباقي قضماً صهيونيا مع بطش واعتقال وقتل شبه يومي. ماهر في العزف على الكمان، يقود فرقة موسيقية، وأصبح له حضوره وأعماله المتميزة. العلاقة بين يعرب وبشارة حميمية جدا، فيها تواصل وجداني، ومشاعر الانتماء الى قضية رساليّة: ثورة الشعب السوري وقضية فلسطين.
أعاد يعرب رسم ماترسّب في نفسه من معاناة عاشها في الثورة، وخاصة استشهاد اصدقائه في المظاهرات في مواجهة النظام، عبّر عن ذلك في لوحات كثيرة رسمها، عبر فيها عن ذاته وعما عاشه. كما تعرّف يعرب، إلى سلينا الفتاة العراقية، التي تركت بلدها مع زوجها الذي يكبرها بسنوات كثيرة، تزوجته في ظل ظروف عائلية سيئة: والدٌ متوفى، وأم ضعيفة، مغلوب على أمرها. انتقلت للعيش معه في فرنسا. وهناك، وبعد سنوات توفي الزوج، وأصبحت سيلينا حرة في تصرفاتها ورثت بعض المال عن زوجها الثري. تمتلك صوتا جميلا، مكّنها من المشاركة بالغناء مع فرقة بشارة الموسيقية، وكان ذلك مدخلاً لحصول علاقة حب حميمة بينهما.
عمل يعرب وبشارة وسيلينا بشكل مشترك، لخدمة قضاياهم، والتنوير على مآسي بلدانهم الثلاث سوريا وفلسطين والعراق، عبر أعمالهم الموسيقية والغنائية، والرسم أيضا. كما تعرف يعرب على برناديت الصحفية الفرنسية، والتي تبنته وحصلت بينهما عواطف حب وود. مما جعل برناديت قريبة من نشاط يعرب وبشارة وسيلينا، تساعدهم وتدعمهم طوال الوقت…
لم تسر أمور هذه المجموعة في مناشطها بشكل سلس، لقد كانت الأقدار هناك حاضرة، حيث مرض بشارة بالسرطان، ولم يخبر أحداً مِمَن حوله بذلك، وقاطع حبيبته سيلينا بطريقة فظة، دفعتها لمحاولة انتحار فاشلة، وبعد ذلك عادت إلى العراق، خدمت أمها التي تقيم في دار للمسنين، وخدمت من كان مع أمها، ثم أحضرت بعض أموالها، وساعدت الدار وجعلتها أقرب انسانياً لتلبية حاجة هؤلاء العجزة المقطوعين من الأهل والدعم المادي والنفسي. وعادت الى فرنسا مجددا باحثة عن حبيبها بشارة الذي علمت أنّه مصاب بالسرطان وأنّه يعاني سكرات الموت، لتصل إليه بعد فوات الأوان. وتقرر استعادة الارتباط بذكراه، وإحياء حبه، والقيام بدورها الإنساني في دار المسنين.
مرض بشارة وعزلته، ووفاته، أنهت عمل المجموعة المنسجمة، لكن يعرب اختار المضيّ في الحياة الرتيبة المريرة صعوداً. فقد توثقت علاقته مع برناديت، وعمل معها، لعرض لوحاته التي تحكي قصة الثورة السورية، في ذكراها السنوية الرابعة. وحقق بذلك نجاحاً ملفتاً. وأصبح يعرب من أهم الوجوه الفنية المعبرة عن الثورة السورية، بصفاء وانتماء ومصداقية، وبات قبلة الصحافة والإعلام في فرنسا وأوروبا عموما. مما جعله تحت انظار الخلايا الامنية التابعة للنظام السوري، والتي تعمل على تصفية الناشطين الثوريين في الخارج بشكل علني، أو سري، المهم التخلص منهم…
لقد صنع النظام شبكة قتل واسعة في أوروبا، اعتمد في ذلك على البرمجة الذهنية، وغسل الدماغ ودفع العميل للإدمان على المخدرات، واعطائه المال وتوريطه مع شبكة للعاهرات، وجعله مصابا بمرض الايدز، والأهم هو دعمه بالمال والمخدرات عند كل عملية اغتيال أو قتل.
كان داود رأس شبكة تنفيذ المهام القذرة هذه في باريس، أُعطي الأمر له من سيدة ترتبط مباشرة مع المسؤول الدبلوماسي السوري الأول في فرنسا، الذي تتلقى تعليماته، وتعطيها لداود، الذي يقوم مع القتلة المأجورين، بعملية التصفية الجسدية. كانت لديهم قائمة بالناشطين المطلوبين بالعشرات، في فرنسا وأوروبا. وهكذا كان يعرب على رأس القائمة المستهدفة بالاغتيال في باريس، خاصة أنّه أصبح من أنشط الثائرين المعبرين عن الثورة السورية والناجحين في ذلك. خطط المسؤول الدبلوماسي، ونفذت السيدة العميلة، عبر قتلة مأجورين اغتيال يعرب، وتم كشف العملية كلها عبر داوود نفسه الذي صحا ضميره أخيرا، واعترف للأمن الفرنسي بكل شيء، قبل موته بالإيدز الذي كان مصابا به.
تابعت برناديت الصحفية الفرنسية حبيبة يعرب وصديقته والتي أصبحت وكيلة أعماله ونشاطه، ملاحقة قضية اغتيال يعرب والقبض على المسؤول الدبلوماسي وعلى السيدة العميلة وعلى القتلة، وحوسبوا كلهم، وتمّ إبعاد المسؤول الدبلوماسي السوري وسُجن الباقون…
في النهاية كانت برناديت قد دونت هذه الأحداث كلها منذ تعرفها على يعرب وأصدرتها على شكل رواية…
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها أقول:
لقد نجحت الرواية على امتداد ٣٥٥ صفحة، أن تخوض عميقا في تلافيف العلاقات الانسانية بشكل شبكي، يغوص عميقا في حالة كل شخصية على حدة: يعرب السوري، والثورة السورية، وبشارة الفلسطيني، والجرح الفلسطيني النازف، وسيلينا العراقية، وجرح العراق الممتد الى عقود، عبر ترابط جميل لشخصيات الرواية الأساسية، دون اقحام، وبسلاسة مقنعة…
كما نجحت الرواية بالربط بين الشخصي، والحميمي الوجداني، والغوص في استقرائه، وبين الانتماء العام لكل شخصية، وأن تجعل ذات كل منها، حاضرة في الحب، وفي العلاقات المحيطة بها وفي انتماءاتها الأصيلة العميقة، الملتزمة بقضايا بلادها الدامية…
لقد لفتت الرواية إلى صمت العالم، عما حصل في سوريا على يد النظام، من قتل وتشريد واعتقال للشعب السوري، وتدمير البلاد، وأن الغرب محكومٌ بثلاثية لا أرى، لا أتكلم، ولا أسمع، وعلى الرغم من توافر كل الأدلة، على التورط الحكومي السوري في اغتيال ناشط لاجئ في فرنسا. تم إبعاد المسؤول فقط ؟!!. وأنّ ذلك يُسحب على صمت أوروبا والعالم، حيال التدخل العسكري والأمني الروسي – الإيراني، وكذلك تغول داعش في سوريا، وتم تحويل أجندة العالم من دعم السوريين في مطالبهم العادلة، في إسقاط الاستبداد وبناء الدولة الديمقراطية العادلة، الى محاربة إرهاب داعش، وترك الشعب السوري لمصيره الأسود، تحت سلطة النظام المجرم وحلفائه… وهذا يعني أن “الغرب قائد العالم” راضٍ عما حصل، وان لم يباركه علنا…
أحمد خميس كاتب سوري متميز، ينتمي إلى جيل الثورة السورية، وهو ما يقودني للقول، بأن روايته هذه، نجحت في توثيق الحدث السوري، وبالتبعية عليه الفلسطيني العراقي، وان الجرح واحد والعدو واحد، وأننا متوحدون في الهمّ والحل، وفي الأمل، وأن هذه الرواية وأمثالها من موجة الإنتاج الروائي العربي، يجعلنا نقدم شهادتنا الذاتية – العامة، وأنّنا لمْ ولنْ ننسى، ولنْ نغفر، وهذه شهادتنا للتاريخ…
وأنّ ثورتنا ثورة حق وانتصار للكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية وأن مسؤوليتنا مستمرة في ثورتنا حتى اسقاط الاستبداد الظالم ومحاسبة القتلة المجرمين…
* قيامة اليتامى، أحمد خميس، فضاءات للنشر والتوزيع، عمّان- الأردن، ط١ / ٢٠٢٠م