فراس حج محمد، شاعر وناقد من فلسطين، أصدر “رسائل إلى شهرزاد”، “من طقوس القهوة المُرّة”،
“ما يشبه الرثاء”، “وأنتِ وحدكِ أغنية”.
أوراق 19-20
نقد
تُعيد النصوص الرديئة- على النقد- طرح المفاهيم الأساسية المتصلة بجنسها المؤطرة ضمنه أو بطريقة التعبير عن أفكارها، وأهم تلك المفاهيم، مفهوم الرداءة نفسه، إذ كيف يكون النص رديئاً إلى درجة المثال الجيّد على هذه الرداءة. ليس في الأمر ما يدعو إلى المفارقة، أو التلاعب بالألفاظ، إنما هي حالة تشكلت على هيأتها لتكون هي، كما استقرت عليها بنموذجها اللغوي والشكلي.
ما مفهوم الرداءة الفنية هنا؟ إنّها- باختصار شديد- ألا يمثل العمل إضافة نوعية في موضوعه أو في جنسه، مع عدم تحقق شروط تكوّنه الأولى ليكون جديرا بتجنيسه الذي يمثله. إنه أشبه بحالة من الهذيان أو الثرثرة اللغوية غير أدبية، إذ تقل أو تنعدم عناصر شعريته، فيبهت في نظر المتلقي ولا يدعوه إلى القراءة أو الاستزادة، ناهيك عن عدم التأثير والبقاء في مخيلة القارئ طويلاً أو قليلاً، فلا شيء يدوم من تلك الرداءة في ذهنه، لأن العقول والقلوب مهيأة على أن تنفعل وتتأثر بكل ما هو جميل وفريد واستثنائيّ، ناهيك عم يحدثه في النفس من مشاعر الإحباط والاشمئزاز، وتعزيز حالة متوهمة من الرداءة قد تصل إلى درجة التعميم على كل شعر أو على كل إنتاج أدبي حديث، أو على إنتاج كل أديب ذي أصول معينة أو جنس معين.
كما أنّ العمل الرديء أيضا يشكل عبئا لغويا على صاحبه، فيحمله على ظهره، فيلتصق به في أرض غير ذي زرع في واد قاحل غير مقدس، فكثير من المبدعين الكبار ضاقوا ذرعاً برديئهم دون أن يكونوا قادرين على التخلص منهم، فظلّ هذا الرديءُ بقعةً سوداء في مسيرتهم يحاولون ألا يكون في بؤرة الضوء والنقد على أقل تقدير، لكن النقد لا يرحم، والقارئ لا يجامل، فهو “براغماتي” يبحث عما يفيده ويمتعه، ولا يستطيع كاتب أن يفرض على قارئ أخلاقياته مهما كانت مثالية، ليمنعه من التنمر مثلا في ظل اتساع رقعة وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تصبح فضيحة الشاعر أو الكاتب الرديء “بجلاجل” على رأي التعبير الشعبي المصري المعبّر بحرفيّة في مثل هذه الحالة.
هذه هي محددات الرداءة التي يمكن أن يستقيها الناقد من مجموع ما قاله النقاد، وهم يعالجون النصوص، ويقرؤونها، أو وهم يحللونها إلى عناصر شكلية وأخرى موضوعية، وهي محددات عامة، لا يختلف حولها النقاد، بل إنهم مجمعون عليها، لكن اختلافهم في مدى انطباقها على نصّ دون آخر.
من المفترض أن “قدسيّ الهوى” للمقدسية خولة أحمد إمام ديوان شعر (دار إلياحور للنشر والتوزيع، 2021). والشعر له محددات من لغة خاصة فردية، وصورة بلاغية، وانزياح دلالي، وتكثيف في الصياغة، ودهشة في التصور الذهني للموضوع، سعيا وراء التأثير في المتلقي.
تعدّ اللغة أهم عدة للشاعر، ففيها ومنها وبها يتشكل الشعر، ويتعامل معها كما يتعامل الخزاف مع الطين، ليعيد خلقها دلاليا في سياقات ذات وقع خاص على القارئ. فلا توصف اللغة الشعرية بأنها لغة عملية وظيفية تؤدي التعبير عن الفكرة؛ هذه هي مهمة اللغة الاجتماعية التواصلية العادية في البيع والشراء وركوب الحافلة مثلاً، فهي لغة استهلاكية ميتة، تموت ولا يحتفظ بها بعد الانتهاء من وظيفتها، على خلاف الأدب- شعره ونثره- الذي تقوم لغته على “استخدام خاص للغة، يحقق تميزه بالانحراف عن اللغة العملية وتشويهها، فاللغة العملية تستخدم استخداماً يرتبط بأفعال التوصيل، أما اللغة الأدبية فليس لها أي وظيفة عملية، وإنما تجعلنا نرى بطريقة مختلفة فحسب”. (النظرية الأدبية المعاصرة، رامان سلدن، ترجمة جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998، ص28)
كما أن اللغة الشعرية ليست هي اللغة العلمية التخصصية الاصطلاحية المنضبطة بجهاز مفاهيمي مغلق على جماعة المتخصصين، كلغة الأطباء أو الفقهيين أو غيرهم. وليست هي كذلك اللغة المعجمية المحفوظة في كتب اللغة. إنّ اللغة الشعرية غير هذا تماماً مع أن الشاعر نادرا ما يخترع لفظا جديدا، لكن مهمته اختراع معان جديدة، فردية ونفسية لألفاظ معينة، وهذا ما يمكن أن يجنح باللغة نحو الرمزية، وإطلاق تفعيل السياق الخاص للكلام، ليتم فهم المقصود من خلال السياق ذاته، إذ يقلّ الاعتماد على الواقع الخارجي في توجيه المعنى، وبالتالي تولد بهذه الطريقة المعاني النفسية الخالصة لتكون ذهنية متصورة تماماً. فاللغة في الشعر تصنع فضاءها المعرفي والتواصل المكتفي بالبنية السياقية التي جاءت فيه، وما يقوم به النقاد من إحالات، لا تعدو كونها تفسيرا للغة بناء على أفق التلقي لهذا الناقد أو ذاك، وقد يكون هذا التفسير ضرباً من الخيال أو رجماً من الغيب.
جاءت اللغة في كتاب “قدسي الهوى” مصنوعة من اللغة العادية الاستهلاكية بكل ما تعنيه اللغة الاستهلاكية التي تموت بمجرد قولها، فهي بعيدة عن سمات لغة الشعر المعتمدة على الانزياح والتكثيف وخلق دلالات جديدة سياقية للألفاظ التي لا توجد معانيها إلا بتلك السياقات، لتكون اللغة الشعرية ساعتئذ قادرة على خلق لغة تبدو كأنها لغة جديدة مقدودة من لحم اللغة الأم، تستفيد من قشرتها اللفظية لكنها تحقنها بالمعاني النفسية الذاتية الخاصة، من هنا يكتسب الشعراء أهميتهم الشعرية، لا أن يعيدوا المعروف والمكرور والمكرر حتى لو كان فيه شيء من جمالية التعبير الإنشائي، لأنّ الشعر- كما يقول أدونيس- “لا يسرد، ولا يخبر، ولا ينقل أفكاراً، ولا يصدر عن العقل والمنطق، ولا عن العادة والتقليد. وإنما يوحي، ويومئ، ويشير، فاتحاً للقارئ أفقاً من الصور، مؤسساً له مناخات من التخيلات” (الثابت والمتحول، دار الساقي، ج4، ص246)، وعاديته اللغوية تقتل روح الشعر وجماليته، بحيث يصبح النص لا شعر فيه إطلاقاً.
توهم الكاتبة خولة إمام القارئ باعتمادها على “جماليات” شعر- لغوية، فتقع في مطبات القافية المجتلبة، عندما تصرّ على التقفية، فتضطر إلى أن توظف ألفاظاً غير مناسبة، عدا أنها ألزمت نفسها بالتقفية في جملها القصيرة؛ فجاءت أقرب إلى السجع منها إلى القافية، إذ لا تكتب الشاعرة القصيدة العمودية، بل إنها في أغلب الظن، كما في هذا الديوان، أو في نصوصها التي تنشرها في الصحف لا تتقن الوزن أو متطلبات القصيدة الكلاسيكية، ما يدخلها في عمليتي الوهم؛ وهم الذات، والخديعة؛ خديعة القارئ العادي. فمن الأسلم لها ألا تلزم نفسها بهذا التقنية التي أصبحت قيدا لأنها لا تتقن توظيفها. جاء مثلا نص “بقايا ذكريات” (ص61-68) مثالا جيدا على رداءة استخدام السجع، أو ما يمكن أن أسميه “وَهْم القافية”؛ فثمة كلمات قلقة في أماكنها، وثمة كلمات أخرى ملعوب بها صرفيا للتوافق والإيقاع، وثمة كلمات محشوة ومحشورة في سياقها لإتمام هذه العملية.
وعلى العموم فإن أغلب عيوب القافية المجتلبة التي تحدث عنها النقاد في الشعر القديم سيجدها القارئ في “قدسي الهوى”، ليصبح الكتاب علامة على رداءة استخدام إحدى تقنيات الشعر الكلاسيكي الموظفة جبراً في سياق من الصياغة غير الرصينة التي لا تمتّ إلى الشعر الكلاسيكي بأية صلة، ليكون توظيفها غير ضروري. عدا أن هذا التوظيف كان عنصر تشويه للنص، ولو خلا منه لكانت النصوص أكثر تحمّلا واقترابا إلى الشعرية، فالتخفّف من الجماليات أحياناً نوع من الجمال، فإذا لم نضع الزينة في موقعها المناسب ستنقلب إلى عامل قبح ورداءة.
تعاني أغلب نصوص الكتاب كذلك من التطويل المخلّ، وهذا التطويل المخلّ أدخل النصوص في باب الثرثرة والترهّل، فالشاعر لا يحتاج أن يثرثر، إنما يحتاج أن تكون عباراته مكثفة مختزنة لمعاني كثيرة في اللفظ الأقل، وكلما كانت العبارة قصيرة دالة كانت أدخل في الشعرية، أما هذا الترفيل غير البلاغي والتطويل الممل الذي لا يتبعه تطور في البناء الكلي للنص أكسبه ملمحا آخر من ملامح الرداءة.
كان لهذا التطويل أثره في تقنية كتابة النص، فغلبت المنطقية الواعية، فجاء النص باهتاً، لا يثير مخيلة القارئ ولا يدعوه إلى المشاركة التفاعلية مع النص، لتنعدم المتعة، فالمعنى واضح ومستهلك، وفيه جريان وراء التوضيح غير الضروري. من ذلك مثلا استخدامها للجمل الاستفهامية، ثم تأتي بعد ذلك وتقول:
“أسئلة تراودني بلا هوادة
ما زلت أسأل
من يجيب؟ من يجيب؟” (ص80-81)
للأسئلة شعرية خاصة في النص، ليس هذا النص بالتأكيد، إنما النص بشكل عام، لكن شريطة أن يحسن الشعراء استخدامها، وألا تكون عشوائية، كما هو في ديوان “قدسي الهوى”.
ويتصل بهذا أيضا- التطويل غير الفني- تتابع التشبيهات في النص، دون أن تمنح تلك التشبيهات بعدا مركبا للجملة ليتطور بها المعنى الكلي للمشهد كله، تقرأ هذا المقطع:
امرأة أنا من تلك العصور
جدائل شعري
كليل طويل
كموج جسور
كقصر منيف
وقمرة نور (ص141-142)
فكيف لقارئ أن يتصور معنى ذهنيا مقنعاً جماليا لشَعْر هذه المرأة وشِعرها أيضاً؟ أظن أن هذه الصورة لو أحيلت إلى فنان تشكلي لخرج بصورة مضحكة أو لعلها صورة مرعبة، كيف لك أن تتخيل جمال شعر المرأة وهو كقصر منيف أو قمرة نور؟ إنها صورة تثير في النفس الفزع وليس النشوة أو الجمال. وهذا يعيد إلى الواجهة مرة أخرى ما قاله النقاد عن التشبيه، وضرورة المناسبة بين طرفيه، وتوضيح المعنى وإبرازه من خلال هذه العلاقة الناشئة بين المشبه والمشبه به.
وبعد هذا وذاك، فإن المعجم اللغوي لكاتبة هذا الكتاب فقير جدا، ويدور حول ألفاظ معينة، ومرجعيتها الثقافية متدنية المستوى، إضافة إلى الفقر المدقع في المجاز والاستعارة والصورة الشعرية المبتكرة، وتكرار مجموعة من الألفاظ واضح لكلّ من يقرأ الديوان.
هذه الحالة من الكتابة التي وصفت بالرداءة على الوجه الذي بينته آنفاً، تطرح سؤالا مهماً: ما الذي يدفع الكتّاب ليكتبوا شعراً؟
سبق لغسان كنفاني في كتابه “فارس فارس” أن أشار إلى الإقبال على كتابة الشعر بغزارة في مقال بعنوان “شعراء متهمون بالغشّ والتزوير” (يٌنظر ص176 على سبيل المثال)، لتجد أنه لا إجابة سوى ما كان قاله في مقال سابق: “هنالك كما يبدو علة كبيرة لدى كتابنا، وهي اعتقادهم أنهم إذا أطلقوا على شيء ما اسم شعر، فإن ذلك يعتبر بمثابة جواز مرور إلى المجد”. (ص43-44) فهذا الكتاب “قدسي الهوى”- في أحسن أحواله- كتاب خواطر مسجوعة يغلب عليها البوح الذاتي، فيها تدريبات أولية على استخدام اللغة العادية الاستهلاكية، وليس له من نصيب كثير أو قليل في الشعر والشاعرية، وعلى ذلك فإن “قدسي الهوى”- بوصفه ديوان شعر- مثال جيد على الرداءة، ولو تواضعت الكاتبة قليلا وجعلته تحت جنس “النصوص” أو الخواطر لكان أسلم لها، لأن النصوص أو الخواطر لا تحتاج إلى تلك الفنية العالية التي يحتاجها الشاعر. فالشعر لا أن تبوح، أو تنوح، وإنما أن تصنع اللغة.
إن الشعر لا يكتب إلا إذا كان الكلام نابعا من منطقة مجهولة من داخلك، دون أن تعرف وحيها بالضبط، واترك اللاوعي هو من يقودك إلى القصيدة، دون أن يكون لعقلك أدنى تفكير أو سيطرة على النص، وإلا سيغرق الشعر في المعقولية والمباشرة والمنطق، وساعتئذ ستكون الكتابةُ نثرا لا شعر فيه، كما حدث بالضبط في “قدسي الهوى”، هذه الحالة الشعرية المطلوبة عبرت عنه الشاعرة نجاة بشارة ولخصته في قولها:
لا نكتبُ الشعرَ إلا عند سَكرَتِنا كيْ يرشُفَ الحبرُ ما ارتَجَّتْ لهُ الكأسُ
ورحم الله الحطيئة الذي كان من الأولين السابقين في الإشارة إلى أنّ الشعر فنّ ليس كأي فن، وحذر من استسهال تعاطيه والخوض فيه، فقال:
فالشِعرُ صَعبٌ وَطَويل ٌسُلّمُه إذا ارتَقى فيهِ الّذي لا يَعلَمُه
زَلّت بهِ إلى الحَضيضِ قدمه والشعر لا يَسطّيعُهُ من يظلمه
يريد أن يُعرِبهُ فيُعجِمُه
وعليه، فإن الشعر كما يصفه الشاعر والناقد الدكتور المتوكل طه: “هو ذلك “القول” الذي يرقى فور سماعه أو قراءته إلى مراتب النيرفانا، ويجعلك تشهق، ويحدِث نبضة النار في خلاياك، ويبعث ذلك النّحل الشرس إلى كل مسامةٍ فيك، أو أنه كلامٌ إلهيٌّ يأخذ روحك إلى رعشةٍ غائمة، ويُعكّر دمك بالعسل، ويتركك على مفترق التيه اللذيذ. أرضه نارٌ ثلجية، وسماؤه أطفال المجرّات اللاعبين في فضاء غير مُدْرَك. بصرف النظر عن شكله، لأن الشِعرَ أكبر من أيّ شكل”. (قصيدة “النثر” والشِعر، منصة الاستقلال الثقافية، 2019-10-28).
فالشعر- إذاً- هو حالة كونية شاملة، وليس مجرد كتابة تتجنّس بالشعر وتتموضع في الصفحة على شكل سلالم لغوية بأسطر متناثرة. بل الشعر أكبر من أن يتضمن صورة شعرية هنا أو هناك، كما هو في كتاب “قدسيّ الهوى”، إذا لم تكن تلك الصور الشعرية ذات نسق شعري عميق يحيل على فلسفة خاصة للكاتبة، بحيث يصبح الشعر رؤيا جمالية لهذا الكون أو احتجاج جمالي تعبيري على ما فيه من قبح ومآسٍ. وليس هو “قداسة الموضوع”، فلن يشفع ذلك للشعر الرديء، ولن يرفعه إلى مصافّ الجودة المطلوبة، ويصدق على هذا الكتاب ما قاله غسان كنفاني في حق أحد كتب الشعر في زمنه: “إن جواز السفر الذي يدخل الرجل إلى وادي عبقر ليس نظافته الوطنية، ولكن أيضا موهبته. قد تكون الوطنية الصادقة في أحسن الحالات جواز سفر إلى سوق عكاظ، ولكنّ الموهبة والأصالة والقدرة الفنية هي سمة الدخول. الشعور الوطني عربة تحتاج إلى وقود، والوقود هو العبقرية”. (فارس فارس، ص36)
ومن باب آخر قريب من ذلك، وإن بشكل أعمّ، فإنّ المعاني- كما قال الجاحظ- “مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير الألفاظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير”. (الحيوان، ج3، ص131-132) وأما في العصر الحديث فقد أكد ملارميه “أن الشعر يصنع من الكلمات نفسها، قاصدا بذلك الكلمات كأحداث حسية”، “رافضاً الأفكار كمادة للشعر” (الشعر والتجربة، أرشيبالد مكليش، ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي، 1963، ص30)
فكم من متطفل على الشعر أفسد الشعر وأبعد القراء عن اقتناء كتب الشعر والاستمتاع به، إذ لا شك في أن هؤلاء الكتبة الذين يسوقون مثل هذا الذي يُدعى شعرا عندهم، أفقد الجمهور الثقة بالشعر والشعراء، فعمل رديء واحد كفيل بأن يخرّب على مائة من العطّارين الممتازين روعة ما ينتجون من جميل الروائح المبهجة التي تشيع في النفس الجمال والأريحية، ولكنْ لولا هذا القبح لما عرف الجمال، وكما قال الشاعر: “وبضدّها تتبيّنُ الأشياء”، و”الضدّ يظهر حسنه الضدّ”، فكأنه لا بد من الأعمال الرديئة لتحلوَ في الفكر والقلب الأعمال الرصينة العظيمة المؤثّرة.