معرفة غير المفهوم
أحاول معرفة غير المفهوم. كأن أنتهي من كتاب، دون الاكتفاء بما أنجزته من النص. يتغلغل في روحي ذلك الشعور الغامض بأنني لم أشبع بعد من الكتاب، أو أن ثمة ما تبقى في نفسي، وما زلتُ أرغب في استكماله. أعرف هذا الشعور، لكن كيف أفسّره لغيري. صار الكتاب مطبوعاً، وأنت خارج كل شيء. الكتاب بين يدي القارئ، وهو يكاد ينتهي من قراءة النص. ربما كان القارئ قد اكتفى الآن من الكتاب، ووضعه جانباً.
٭ ٭ ٭
ما تعرفه، وما لا تفهمه، ربما لا يفهمه الآخرون أيضاً.
(قاربٌ مثقوبٌ، تتلاطم به أمواج المحيط.
أغنيتك الحزينة تصير صوتاً مذعوراً لفرط الخطر الماثل).
أمام تلك المسافة الجهنمية بين وهم المعرفة ومخيلة الفهم. تواضعْ قليلاً وأنتَ تهمّ بكتابة اسمك على كعب كتابك، فليس من الحكمة المسارعة بإعلان صوتك في الناس، وأنت لم تمتْ بعد. التواضع سيد الماء وهو ينثلج، فبعد قليل يرجع الماء إلى طبيعته ولا يعود الثلج موجوداً. (هل أنت تمثالُ شمعٍ يخرج إلى الشمس؟).
٭ ٭ ٭
هذا ما عرفته، فقط. وما خفي كان أعظم.
هكذا يقولون.
ومن يزعم أنه يفهم كل شيء، ربما يكون قد جهلَ كل شيء.
الأمر ليس مثل نشرة الأخبار التي تكرّ علينا 24 ساعة يومياً، ونحن نتتبع ونصغي باهتمام، لتفصيل الأخبار بحماس المتوجس، لكن مَنْ يستطيع الجزم بأنه فهم ما ورد من أخبار؟ تلك الأخبار التي تكاد تبدو واضحة كمعلومات، وهي عادة من بين أكثر النصوص حرفية ومباشرة، ومزودة بالأرقام والمعلومات. لكنها في الواقع أكثر الأمور غموضاً في حياتنا الواقعية اليومية. فمن مجريات الحياة وطبيعتها المتعارف عليها (واقعياً) ليس في الأخبار المتداولة رسمياً سوى ربع الحقيقة، وربما رائحتها. الجميع يعلم أن أحداً في الجهات الرسمية لا يقول الحقيقة. إنه أكثر المتحدثين كذباً. ليس فقط بسبب الملابسات السياسية والدبلوماسية وغيرها، لكن خصوصاً لأن الجهات الرسمية لا تجد في قول الحقيقة للشعب واجباً لازماً، ولا تسمح لأجهزة ووسائل الإعلام نقل الحدث، إذا حدث كاملاً بالفعل.
فكيف يتسنى لنا الزعم بأننا نعرف؟
أو نفهم ذلك إذا عرفناه؟!
الشاعر والله
الشاعر والله يستويان في الخلق،
ليس ثمة غضاضة في هذا.
وليس متوقعاً من المبدع أن يرى إلى الله بوصفه الغيبي.
المبدعون لا يصدقون ذلك.
٭ ٭ ٭
في السنوات الأخيرة، خصوصاً، تيسر لي ردمَ الفجوة بيني وبين الله كفكرة. رأيت فيه صديقاً شخصياً بلا رسميات. حرَّرتُه من الفكرة الغيبية، فشعرتُ بحرية علاقتي الشخصية معه. بلا وساطة ولا حرج أسأله، أعاتبه، أسأله، وأطلقُ معه الحوار المشحون بالشك ذي المغزى. ربما ورد شيءٌ من هذا في بعض النصوص التي كتبتُها في السنوات الأخيرة، دون أن تكون في ذلك مثلبة.
٭ ٭ ٭
في اعتقادي، كلما تمكَّن الشاعرُ من جعل علاقته مع الله شخصية، صار الدِينُ جميلاً وممكناً وشهياً أيضاً، وقد أصبح هذا مطلوباً الآن (بوصف الشاعر أكثر جرأة على ذلك) من أجل تفادي التوظيف السياسي للدين، التوظيف الذي يبالغ (بشكل مبتذل) في جعل الناس عبيداً له.
٭ ٭ ٭
فمنذ فجر الحياة، كانت فكرة الدين، (لحظة ولادتها في السحر والساحر، بالمعنى الأرقى للكلمة) في خدمة الانسان وليس العكس. أكثر من هذا، سوف يختلط ويتداخل ويلتبسُ، حدّ التماهي، الله والشاعر، ليبدو الشاعر هو قائد فكرة السحر والله، وحرية الدين الحر في آن. وإلا ما الذي يجعل الانسان يؤمن بالغيب، لولا هذا الغموض المدهش في الفكرة.
٭ ٭ ٭
الغامضان، الشعر والله،
يكونان أجمل كلما تمتعتْ،
(هذه الفكرة) بالحرية.
المعرفة
عليك أن تُعلّمني كيف أطير.
٭ ٭ ٭
لسنا في عجلة من أمرنا
ثمة أجنحة كثيرة وقليل، قليل من الهواء
قليلٌ لا ينعش الدم
ولا يسعف الريش
وليست للروح سطوة عليه.
٭ ٭ ٭
لكن، عليك أن تعلمني كيف أطير
٭ ٭ ٭
لديّ من الريش ما يدفئ الروح
ومن الأجنحة ما يكفي سرباً من الصقور
لكنني لا أحسن التحليق
كيف يمكنني الطيران في هذه الزرقة الفاتنة
وحدي؟
٭ ٭ ٭
من الذي يزعم أنه يعرف عن المستقبل بقدر معرفته الماضي؟
وكيف تسنى لنا الصبر على حاضرٍ مثل هذا،
تحت وطأة أكثر الطغاة جَلداً على نفي المستقبل كفكرة،
ومحوه من أحلام أطفالنا.
نقف تحت سقيفة الله،
نتفاقم في صلاة الصمت،
نتضرّع للبراثن،
دون أن يتبدّى لنا أن الله لم يزل هناك.
وإلا كيف نقبل فكرة التنازل عن سؤاله في أي جانب يقف الآن،
هل هو واحدٌ منا أو منهم،
وإلا كيف يتسنى لنا معرفة من فيهم ذهب إلى جنة ومن منهم إلى جحيم، هؤلاء الذين ذبحهم الجميع،
باسم الله،
دون أن يحرّك ساكناً، ويخبرنا لمرة واحدة فقط،
مرة واحدة يا الله،
من الجَرح ومن النَصل،
وأين أنتَ من كل هذا؟
يا الله،
نحن الذين لك، قل لنا يا أنت
لمن؟
*القدس العربي