في مديح الثقافة والصحافة

0

بسام أبو طوق

كاتب سوري

أوراق العدد 12

مقالات

نقل عن غوبلز وزير الدعاية النازي “كلما اسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي”.

وهذه من المنقولات التي تعاد وتستعاد حتى تترسخ صحتها في أذهان الناس، بينما القائل الحقيقي هو المِؤلف المسرحي النازي هانسن يوهست، ما علينا.. أما أنا العبد الفقير، فكلما أسمع كلمة ثقافة.. تتسارع نبضات قلبي وأشتعل حباً وعشقاً وشغفاً.

وفي هذا تتجلى الأوجه المتعارضة للإحساس “ولا اقول الفهم” بالمصطلحات، حسب الموقع الفكري أو الطبقي أو المذهبي الخ..

في المعنى الإيجابي، تتجلى الثقافة أو النشاط الثقافي كقوس قزح، أطياف ألوانه، الفنون والشعر والأدب والتاريخ والتعليم والفلسفة وغيرها من ابتكارات البشرية وإبداعها، منذ تميز الانسان عن الحيوان، وبدأ ببناء حضارته.

في مقابل البناء التكنولوجي والعلمي الذي أنتجته الحضارة البشرية ورفعت مداميكه لبنةً لبنة، تبدو معجزة الابداع الثقافي بمكوناته التي أسلفنا الحديث عنها الأرقى والأجمل، معبرة عن الانسانية بما هي احساس ومشاعر وروح وقلب وعقل.

وفي نظري ووجداني، يتسامى الكتاب والشعراء والفلاسفة والفنانون والمبدعون على مر التاريخ إلى مرتبة تقارب الأنبياء، فإنجازات وروائع الثقافة على مر العصور والأحقاب، تبني عالما منعكسا للعالم المادي، ومثلما تهطل المُزن بأمطارها على الأرض العطشى، فتدغدغها وتنعشها لتفتح مكامنها وتطلق الاخضرار والحياة، كذلك تعكس الثقافة بأنوارها البهية على العالم الجامد المتثاقل، فتهزهزه وتحفزه، وتكرس إنسانية ورقي الحضارات البشرية.

عدو الثقافة هو الجهل والاستبداد والفساد .. وصديق الثقافة هي الحرية والحق والواجب .. يسعى الفساد لخدمة فرد فاسد، وتسعى الثقافة لخدمة المجتمع، تعيش الثقافة وتتألق في الانتشار والتنوع والتجدد.. ويتوالد الفساد ويتخمر في التقوقع والخفاء والتجمد..

الثقافة ناصعة خضراء، والاستبداد حالك السواد، فلا تعيش افكار المستبدين بعد موتهم، بينما تبقى ابداعات المثقفين على تألقها بعد مماتهم.

قصائد المتنبي وأبو تمام وبايرون وبودلير وماياكوفسكي وغيرهم، لوحات دافنشي وانجلو وفان كوخ وبيكاسو وغيرهم، ملاحم هوميروس وفرجيل ودانتي وغيرهم، مسرحيات سوفوكليس وشكسبير وبريخت وغيرهم، سيمفونيات شوبان وبيتهوفن وتشايكوفسكي وغيرهم، أضافت الى عمر الحضارات سنين ضوئية، بينما أعاق المستبدون والفاسدون والجهلة تقدم هذه الحضارات.

في الثقافة حياة وحب وازدهار، وفي الجهل فناء وكره وتلاشي.

في البدء كانت الكلمة.. عبارة تختصر تاريخ البشرية والحضارة.

أنصار نظرية التطور يؤمنون أن الانسان ارتقى وتطور عن القرد عندما مشى منتصبا على رجليه، أو عندما بدأ يستعمل أصابع يديه، ربما.. فهي نظرية علمية، لها فرضياتها وبراهينها، ولها معترضوها ومخالفوها، ولكني أؤمن أن التجمعات الانسانية قد تطورت عن التجمعات الأخرى، عندما اخترعت الكلمة. فكانت الطفرة وقفزت سنوات ضوئية على سلم الحضارة وعليها تأسست الاديان والتاريخ والاساطير والعلوم والفنون.

الطفرة الثانية هي الكتابة .. التي غيّرت حضارة الانسانية من حال الى حال.

وحديثا “بمقياس زمن الحضارات” اخترعت الطباعة .. لم يعد العلم والادب والثقافة، حكرا على فئات النخبة، بل تعممت على جميع افراد البشر.

على مر العصور والأحقاب، تطورت الكلمة والكتابة والطباعة الى منتجها السحري .. الصحافة.

تعلمت فك الحروف وقراءة الكلمات مبكرا، فتفتح عقلي وخفق قلبي في عالمها الساحر .. الصحافة .. مئات الصحف والمجلات، يومية وأسبوعية وشهرية تزاحمت في بيوتنا السورية، وعلى بسطات شوارعنا، ومنصات احتفالاتنا، وطاولات مقاهينا .. كانت الصحافة وأخبارها ومقالاتها، عنوان أحاديث الاقارب والاصدقاء .. حتى أزمات الوطن والاقتصاد والمعيشة، يتم تحليلها وتنظيرها وابتكار الحلول لمعالجتها، من خلال الصحافة.

الشعر والادب والثقافة والفنون.. وجدت مكانتها وشغفها في قلب المجالس والاجتماعات، على أجنحة الصحافة، الصحافة المقروءة، وأختها المسموعة، تبعتها المرئية، كانت عنوان وألق وحرية الوطن وأبناءه.. كانت تلاوين الحياة والزمان .. سميت بالسلطة الرابعة.. ولكنها كانت اكثر غنى”, وأعم حبا”, وأعلى ولاء” , من باقي السلطات.

لم تحتج الى شرطة وجيش وقوانين ونواظم , ولتنوعها وتنافسها على حب متابعيها , كانت الأكثر صدقا وتعبيرا.
عشت وعاش ابناء وطني السوري , في رحاب الصحافة وعشقها .

لم أمارس الصحافة , وجرتني الظروف للاستغراق في العمل الهندسي الانشائي المتعب . ولكنني بقيت عاشقا وهاويا ومعجبا بها.

الصحافيون – وخاصة المبدعون منهم – هم الأرقى والأرحب والأكثر فائدة للشعب والوطن، والاكثر انتاجا”، لما يدوم على دوام الزمان.

الصحافة.. هي معنى ومبنى الحرية والتطور والاستدامة، في مواجهة الاستبداد والتخلف والظلامة.

تقلصت مساحة الصحافة المكتوبة في الآونة الأخيرة، بسبب التطور التكنولوجي الكاسح والانترنت، فتعممت المعلومات وتلخصت المقالات، تناغما مع وتيرة العصر المتسارعة زمنيا، وتقدم التلفزيون والسينما بشكل ساحق، ولكن.. شغف الكتابة والقراءة، وترميز المشاعر، وحرية الفكر، وتفرد الانسان ودواخل النفس البشرية، مازال لها ألقها واعتبارها.

أيها المثقفون والصحافيون في كل انحاء المعمورة.. أيها الشعراء والكتاب والرسامون والموسيقيون والسينمائيون والفنانون، أنتم معنى وعنوان الحياة لهذه البشرية المعذبة، فاصبروا وصابروا وثابروا.